إن لكل سلعة تكلفة ولكل خدمة أجرًا لذلك فإن الإصلاح الاقتصادي عملية صعبة تعاني فيها الشعوب وتدفع ضريبة الاسترخاء الطويل الذي لم تتنبه خلاله إلى أهمية وصول أسعار السلع والخدمات إلى مستوى التكلفة العالمية لها، ولقد مر علينا حين من الدهر استمرأنا خلاله حالة الاسترخاء الاستهلاكي دون أن نعنى ببناء قاعدة اقتصادية قوية فكانت النتيجة على ما نعلم جميعًا هي حالة من التراجع الواضح في الاقتصاد القومي وانخفاض معدلات الادخار ثم الاستثمار وهو أمر جر على البلاد ويلات ربما كان أبرزها ما جرى بعد ثورة 25 يناير 2011، والغريب في الأمر أن المصريين جميعًا لديهم تصور كامل وتوصيف دقيق لمشكلات الوطن والكل يلقي باللائمة على الحكومات أحيانًا وعلى التجاوب الشعبي أحيانًا أخرى وعلى التدخلات الأجنبية تارة ثالثة، ولقد لاحظنا في السنوات الأخيرة عددًا من الظواهر المرتبطة بالاقتصاد الوطني والتوجهات الإيجابية لإصلاحه ولعلنا نوجز جوانب المشهد برمته في الملاحظات الآتية:
أولًا: نحن شعب لا يميل إلى تسجيل ممتلكاته ولا تقنين أوضاعه ولذلك فإن الاقتصاد غير المنظور يمثل شريحة كبرى في الاقتصاد المصري كله قد تصل أحيانًا إلى نصفه أو تزيد وهو ذلك الاقتصاد الذي نطلق عليه اقتصاد (بئر السلم) حيث يتم كل شيء بعيدًا عن نظر الدولة ودون وفاء بالتزاماتها، فالمصريون يتفننون في التهرب من دفع الضرائب ولا يجدون مبررًا لدفع الرسوم الجمركية، إننا أمام مواطن عزله التاريخ عن الواقع وجعله حالة خاصة لا يقاس عليها ولذلك فإن الاقتصاد غير المسجل يبدو مؤثرًا للغاية في الناتج القومي النهائي، بل يندهش الكثيرون أحيانًا ممن يتابعون الحالة المصرية من أن الشعب المصري – رغم معاناته والخلل والواضح بين الدخول والأسعار في مرحلة الإصلاح الاقتصادي- يأكلون ويشربون ويعيشون والفضل في ذلك يرجع في جزء كبير منه إلى الاقتصاد غير المنظور، فذلك يزرع قطعة أرض اغتصبها من طرح النيل والثانية تربي دجاجًا فوق سقف المنزل والثالث يبيع الحلوى من نافذة في بئر السلم، إنه بلد يحار فيه الاقتصاديون ويحتاج إلى حشد ضخم من أساتذة العلوم السلوكية ودراسات علم النفس الاجتماعي.
ثانيًا: إن مصر – رغم فقرها الظاهري – دولة غنية بمواردها الطبيعية والبشرية ولعل القيمة الحقيقية لما يجري فيها الآن هو عملية البحث الجاد والمصممة على توظيف الموارد كلها لخدمة الإنسان المصري ومستقبله، كما أن إصلاح البنية الأساسية خصوصًا ما يتصل بالطرق والأنفاق ثم السكك الحديدية سوف تصب في النهاية في خدمة الاقتصاد الوطني وصالح الجماهير التي تعذبت كثيرًا بسبب سوء السياسات أحيانًا وإهدار الموارد أحيانًا أخرى فضلًا عن شيوع الفساد وسوء الإدارة.
ثالثًا: إن الرأي العام المصري رشيد بطبيعته متماسك بتاريخه ولديه درجة من تراكم الوعي عبر عشرات القرون جعلته قادرًا على عملية الفرز بين ما ينفعه وما يضره حتى وهو في أصعب الأوقات وأحلك الظروف فهو قادر دائمًا على الانحياز للقرار الرشيد حتى ولو كان ثمنه مرتفعًا وتكلفته عالية، ولعل ذلك الرأي العام المساند لعملية الإصلاح الاقتصادي هو خير داعم لمتخذي القرار لأننا قلنا من قبل أنه رغم ضعف الأداء الديمقراطي في مصر تاريخيًا إلا أن الرأي العام يعوض ذلك الضعف خصوصًا في العقود الأخيرة.
رابعًا: إن مصر تحارب في أكثر من جبهة فهي تتبنى مشروعًا ضخمًا للإصلاح الاقتصادي برقابة من صندوق النقد الدولي ولكنها أيضًا تحارب الإرهاب على أرضها دفاعًا عن الإنسانية كلها وهي تقوم بذلك وحدها وبتكلفة باهظة في الأرواح والسلاح والمال ولكن لم يكن أمامها خيار آخر فذلك هو قدر الدولة المركزية المحورية في هذه المنطقة من العالم، ولقد قطعت مصر شوطًا طويلًا لتحقيق أهدافها ولكنها ظلت متماسكة عصية على السقوط قوية أمام التحديات وتلك سمات مصرية يعرفها التاريخ وتشير إليها الجغرافيا، ربما كانت هي عبقرية الزمان والمكان التي تحدث عنها جمال حمدان.
خامسًا: إن المصريين إذا اكتشفوا أن حجم الفساد قد بدأ يتراجع بالفعل يمكن لهم في تلك الحالة أن يقبلوا بمقتضى الحال وبتأثير الظروف عليهم خصوصًا إذا أدركوا أنهم على الطريق الصحيح وأن القرار السياسي والاقتصادي قراران رشيدان يصنعان بيئة ثقافية مواتية تسمح بالقدرة على التحول وبناء المستقبل.
خلاصة ما أريد أن أذهب إليه من هذا العرض الموجز هو أن أبرز أهمية الرأي العام المصري في صياغة المستقبل باعتباره قوة ناعمة لا تؤثر في مصر وحدها ولكن في المنطقة كلها، ويعتبر مساندًا للدولة فيما تفعل، وقد ألمح رئيس مصر إلى هذا المعنى عندما تحدث عن أهمية الإعلام في دعم سياساته ومساندة قراراته مقارنًا ذلك بما تمتع به الرئيس الراحل عبد الناصر في هذا السياق، ونحن نرى ومعنا جمهرة المعنيين بالشأن المصري أن التماسك الدائم وراء القرار الرشيد هو طريق الخلاص لهذا الوطن مما عانى منه عبر السنين، ولاشك أن الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على التنمية المستدامة هي الدولة التي نسعى لتحقيقها ونمضي وراءها، ومصر التي قهرت الغزاة وأسقطت الطغاة سوف تكون قادرة على اللحاق بركب العصر وسباق الزمن والتطلع إلى المستقبل.
نُشر المقال بجرية الأهرام بتاريخ 3 سبتمبر 2019.