ورد فى الذكر الحكيم تساؤلٌ حول نبيه الكريم (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق) فإذا كانت هذه هى صفات المعصوم الأول، فما بالنا ببقية البشر يتعالون على الناس، ويتيهون بمواقعهم، ويمرحون بمناصبهم كأنهم لا يدركون أن المُلك لله وحده يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء؟! أذكر ذلك بمناسبة ما أراه من استعلاء بعض المسؤولين أحيانًا، وهنا أقول لكل واحد منهم إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً! ومن تواضع لله رفعه، والبساطة هى تعبير عن نقاء الروح وسمو النفس، وعندما أرى رئيس الدولة «عبدالفتاح السيسى» يُقَبِلُ رأس أم شهيد أو يمسك بيد فتاة قست عليها الظروف وحرمتها نعمة البصر فإذا به يرافقها من المنصة إلى مقعدها، وعندما أراه يحمل طفلًا من أبناء الشهداء فإننى أشعر بارتياح، لأن الحاكم أدرك أن الخلود لله وحده، ولقد أبهرنى مؤخرًا رئيس وزراء لبنان الأسبق «فؤاد السنيورة» الذى كان يحضر إحدى حفلات السمر فى ليلة صيفية وسط حشد من مئات الحاضرين الذين كانوا يرددون الأغانى، وينشدون الأهازيج، فإذا بالسياسى اللبنانى المخضرم يمسك بالميكروفون ليغنى إحدى أغانى عبدالحليم حافظ الشهيرة، ويظل مندمجًا فى الغناء بلا حرج أو حساسية، وقد عمت الدهشة والسعادة جموع الحاضرين، لقد دخل الحفل وهو رئيس وزراء لبنان الأسبق وخرج منه وهو سياسى صاحب شعبية يعترف بها الجميع!
ولقد تذكرت أنه أثناء إحدى حفلات العشاء التى أقامها الرئيس «مبارك» تكريمًا لرئيس جمهورية زامبيا «كينيث ديفيد كاوندا» فإذا بالرئيس الزامبى يقف فى بداية حفل العشاء، ويقول وهو ينظر للرئيس المصرى وكل الحاضرين: «اسمحوا لى أن اتصرف على طبيعتى، وأن أعبر عن مشاعرى» ثم بدأ وصلة رقص إفريقى رائعة ممسكًا بمنديل يده الشهير، ولم يجد بطل استقلال بلاده حرجًا فى أن يكون بشرًا عاديًا يتصرف بتلقائية، وهو أمر كان محل إكبار الحاضرين حتى صفق له الجميع لأنه نشر روح الود والمحبة فى اللقاء وأزال الحواجز بين الوفدين الضيف والمضيف، ولا بد أن أعترف هنا بأننى أشعر بأسى عندما أرى استعلاء وزير أو وزيرة دون مبرر أو تميز ملحوظ، وكأن المنصب قد أوحى لهم بما لم يدركوه عن أنفسهم من قبل وكأن كل واحد منهم يبدأ صباحه بابتلاع قرصين من (النشا) مع كمية وفيرة من الماء حتى يظل طوال اليوم مشدودًا يذكر نفسه أنه وزير أو أنه مسؤول كبير، ولعلى أستدرك هنا قائلًا: إننى أعرف نماذج على الجانب الآخر لوزراء ومسؤولين زادتهم المناصب تواضعًا، وأراهم يسعون إلى الناس، ويستمعون إلى ذوى الحاجات، ولا يعيشون فى أدوار التوحد والانفراد لأنهم يعرفون أن ما يقومون به هو مهمة مؤقتة، وأنها لو كانت قد دامت لغيرهم ما آلت إليهم، وأنا أقارن أحيانًا بين الوزراء وكبار المسؤولين فى الدول الغربية المتقدمة وبين نظرائهم فى عالمنا العربى لكى أكتشف أن ثقافتهم هناك ترى المنصب تكليفًا وأن ثقافتنا هنا تعتبره تشريفًا! ولقد رأيت بعينى شخصية مصرية كلفها رئيس الدولة برئاسة الحكومة-ــ وكان ذلك منذ عدة عقود- فإذا رئيس الحكومة الجديد الذى فوجئ بالاختيار الذى لم يكن يتطلع إليه يبدأ فى تغيير شخصيته تمامًا. لقد رفع كتفيه، وقطب حاجبيه، وأمسك بمسبحة لكى يوهم من حوله أنه فى حالة طرح صوفى معزولًا عن الناس، لقد رأيت وزراء فى بريطانيا يذهبون إلى عملهم بالدراجة، وقرأت عن أحد ملوك دول «إسكندنافيا» الذى ينتقل بالطيران التجارى وسط الركاب العاديين، ولا يتحرك بطائرة خاصة، ولا شك أن المحاذير الأمنية تلعب دورًا أحيانًا فى الحد من بساطة الحكام وعفوية تصرفاتهم. وقانا الله شر أقراص (النشا) فى أكواب المياه؛ لأن ذلك يؤدى إلى خروج عن مألوف الحياة.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1425841