فى لقاء لى منذ عدة شهور فى بيت السفير السودانى بالقاهرة بمناسبة زيارة وزير خارجية بلاده ذكر لى الدكتور عصام شرف رئيس وزراء مصر الأسبق أنه التقى عام 2011عندما كان رئيسًا للوزراء برئيس الوزراء الإثيوبى الراحل (زيناوي) الذى كان فى زيارة رسمية للقاهرة حينذاك، ويومها ذكر (زيناوي) له أن بلاده سوف تبدأ فى تشييد سد صغير لاحتجاز 14 مليار متر مكعب فقط من المياه وذلك لتوليد الكهرباء التى تحتاجها بلاده بشدة ولكن الذى حدث بعد ذلك أنهم ضاعفوا حجم السد عدة مرات لأهداف سياسية قبل أن تكون اقتصادية، وقد قال له رئيس وزراء مصر الدكتور عصام شرف (إننا نستطيع أن نحيل أزمة السد المحتملة إلى مكسب مشترك بدلًا من أن تكون مصدرًا للخلاف أو سببًا للمواجهة بيننا وبينكم)، وأضاف الدكتور شرف لضيفه الإثيوبى ان هناك أفكارًا كثيرة تؤدى بنا معًا إلى ما هو أفضل، فاثيوبيا بلد بلا شواطئ بعد انفصال (إريتريا) وليس لديكم موانئ على بحر مفتوح ونستطيع إذا اتفقنا أن نحدد مساحة من الأرض المصرية على ساحل البحر المتوسط بجانب أحد الموانئ فى بورسعيد أو دمياط أو الإسكندرية بحيث تكون ميناءً خاصًا للتصدير من بلادكم إلى الدول الأوروبية عبر المتوسط واضعين فى الاعتبار إمكانية الانتهاء من طريق برى يربط أعالى النيل بساحل المتوسط وبذلك نكون قد حققنا انجازا كبيرًا للدولة الإثيوبية وخلقنا شبكة مصالح مشتركة بيننا وبينكم إذ أنه لا يوجد ما هو أهم من المصالح المشتركة فى تحسين العلاقات بين دولتين وتأكيد الارتباط بين دول حوض نهر النيل، وقد ذكر لى الدكتور عصام شرف أن رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل استقبل ذلك الاقتراح بشغف شديد واهتمام زائد حتى كادت الشعيرات البسيطة فى رأسه أن تقف استحسانًا للمقترح ورغبة فيه! ولاشك أن هناك عشرات الاقتراحات لربط مصر بدول حوض النيل ولكنها تبقى دائمًا حبيسة للثرثرة الدورية فى اللقاءات الموسمية! ولعلنا ندرك من هذه المحادثة المبكرة أنه كان يمكن تقديم اقتراحات وقائية قبل أن تتضخم مشكلة السد وتصبح هاجسًا لكل المصريين، أقول ذلك وأنا أتطلع إلى الموقع العبقرى لمصر على البوابة الشمالية الشرقية للقارة الإفريقية حيث يمتد جسد الوادى جنوبًا وتطل الرأس على أوروبا شمالًا ويكون التساؤل هنا مشروعًا بل ومطلوبًا، ألا يمكن أن تتحول مصر إلى همزة وصل بين قارتها السمراء والقارة الأوروبية وما وراءها خصوصًا أن مصر تاريخيًا هى حضارة الملتقى ومركز الاتصال بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب ولعل قناة السويس شاهد تاريخى على ذلك، وقد يكون من الملائم أن نطرح الملاحظات الثلاث التالية:
أولًا: لقد كانت دوائر السياسة الخارجية المصرية كما حددها عبد الناصر هى عربية وإفريقية وإسلامية ثم أضاف إليها الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى الدائرة المتوسطية التى كانت موجودة من قبل ولكن فى جانبيها الثقافى والحضارى حتى أخذت فى السنوات الأخيرة بعدًا سياسيًا له أهميته وضرورته، فكان تواصل القاهرة مع كل من اليونان وقبرص تأكيدًا جديدًا للعلاقة التاريخية التى تربطنا بدول المتوسط الذى يعتبر بحيرة الحضارات التى أطلت عليه منذ فجر التاريخ مصرية وفينيقية وإغريقية ورومانية، ولذلك فإن تحول مصر إلى رابط حيوى بين دول البحر المتوسط وجزره فى جانب وبين أطراف القارة السمراء على الجانب الآخر، خصوصًا دول حوض نهر النيل بمثابة تدشين لفصل جديد فى العلاقات بين الشمال والجنوب كما أن ذلك يأتى بالفائدة الشاملة على كل الأطراف، وتوجد شبكة مصالح بين دول حوض نهر النيل يذوب فى إطارها موضوع (سد النهضة) وغيره من العثرات التى تواجهها مصر مع أشقائها فى دول حوض النهر.
ثانيًا: إن دول حوض نهر النيل تعانى فى مجملها قلة فى الموارد وضعفًا فى التنمية وضآلة فى التبادل التجارى مع نقص فى الكهرباء وغياباً شبه كامل للصناعة إلى جانب مساحات شاسعة من الأراضى غير المستغلة، وبالتالى فإن مثل هذه المشروعات التى نطرحها اليوم للنقاش يمكن أن تؤدى بنا إلى أن تصبح مصر هى الشقيقة الكبرى بحق لدول النهر وهى قاطرة التنمية التى ينظر إليها الجميع بندية ومودة وارتياح بدلًا من الحديث المتكرر عن السيطرة المصرية التاريخية والرغبة فى الهيمنة على غيرها مما صنع عقدة مزمنة نعانى منها اليوم، لذلك فإن الاعتراف بالأخطاء السابقة وتوليد الأفكار الجديدة هما المطلبان الحيويان فى هذه المرحلة.
ثالثًا: إن العلاقات بين مصر ودولتى السودان يجب أن تجتاز كل العقبات وأن تصبح رصيدًا مشتركًا للمبادرات البناءة بدلًا من رواسب التاريخ ومرارات الوجود الأجنبى على أرضنا جميعًا، وليدرك أشقاؤنا فى السودان بشطريه أن مصر عمق استراتيجى ومورد تجارى ومصدر للحياة الحديثة وليست عبئًا على غيرها، ولعلى أسجل هنا أن أشقاءنا فى جنوب السودان يبدون أكثر تفهمًا لهذه الحقيقة من أشقائنا فى دولة الشمال ـــ توأم الزمان ورفيق العصور ــــ ولعل الكل يدرك أننا فى قارب واحد إما أن نطفو به جميعًا أو نغرق معه فى مياه الفيضانات والسدود والمشكلات!
هذه رؤية لدور أتطلع أن تلعبه مصر على المدى الطويل والقصير استراتيجيًا وسياسيًا حتى نحتضن على الجانبين أشقاءنا الأفارقة فى حوض النيل وأصدقاءنا الأوروبيين فى شمال المتوسط، ولقد أثلج صدرى كثيرًا ما قرأته أخيرا عن إحياء مشروع الطريق البرى من (كيب تاون) فى جنوب إفريقيا إلى الساحل الشمالى فى مصر، وقلت فى نفسى لعلها تكون البداية فأول الغيث قطرة، وأول الحب نظرة، وأول الرخاء فكرة!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47377
تاريخ النشر: 23 أغسطس 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/547181.aspx