كنت فى زيارة أخيرة لمبنى مؤسسة الأهرام ورأيت أن أمر على مركز الأهرام للنشر للقاء صديقى الأستاذ محمد الشاذلى مدير المركز، وسعدت كثيرًا بالإنتاج المنشور كمًا وكيًفا، كما أسعدنى أكثر إصدار المركز لسلسلة دورية قد تصل إلى سبعة أجزاء تتضمن مقالات الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل من منتصف خمسينيات القرن الماضى حتى عام 1974 وهو العام الذى ترك فيه هيكل الأهرام بعد خلافه مع الرئيس الراحل السادات وكانت تحمل عنوانًا دائمًا (بصراحة) خصوصًا وأن جيلى وجيلًا سبقه وآخر تلاه قد نهلوا من ذلك المقال الإسبوعى جزءًا من المكون التاريخى لثقافتهم السياسية.
وقد كان الكاتب الراحل هو شعاع الضوء الوحيد الذى يطرح الأفكار التى لا يجرؤ عليها غيره ويسرب من المعلومات ما ليس متاحًا لسواه، وقد لاحظت أن صورة الكاتب الراحل موضوعة على الغلاف واقترحت على الكاتب الصحفى مدير المركز أن تتبدل صورة هيكل وفقًا لمراحل تطوره العمرى كلما انتقلنا من جزء إلى آخر حتى ترتبط الصورة الذهنية لدى القارئ بمضمون الجزء الصادر من مقالات (بصراحة) لذلك الكاتب الأسطورى الذى نفتقد وجوده فلقد كان قادرًا على توصيف كل مشهد وتحديد البوصلة الوطنية عند مفارق الطرق، وكان مزيجًا من الكاتب والمفكر والمحلل السياسي، وما أحوج الأجيال الجديدة حاليًا إلى من يمتلك تلك السبيكة الرائعة ويضع يديه على الرؤية المضيئة وسط الظلام.
وقديمًا قال الشاعر العربى ( وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر) فليقل مريدو هيكل وخصومه ما يشاءون مدحًا أو قدحًا فى الرجل إلا أنه كان بغير جدال ظاهرة متفردة قادرة على التقاط جوانب المشهد السياسى فى براعة الجراح الماهر.
إننى لا أنسى ما قاله بعد ثورة 25يناير حين اكتشف بحسه الرفيع أنه لا يوجد برنامج سياسى ولا قيادة للثورة الجديدة، فقال الراحل وقتها ( إننا كمن هبط على سطح القمر ولم يجد ما يطلبه إلا نصف كيلو كباب!) ولا غرو فهو الرجل الذى تفاعل مع تاريخ مصر الحديث وأثر بشكل مباشر فيه ولم تقف حدوده عند المفهوم السلبى لدور الصحفى بل كان بحق جزءًا من القرار السياسى والطرح الوطنى فى فترات صعبة من تاريخنا القومى كما امتلك ذكاء حادًا وخيالًا واسعًا وكان مزيجًا من الصحفى والأديب والروائى والمؤرخ، لذلك فإننى سعدت كثيرًا بتجميع مقالاته التى أثرت فينا بل وفى صناعة القرار السياسى ذاتها فى عصرى عبد الناصر والسادات فهو شاهد مباشر على عدوان 1956وهزيمة 1967والعبور العظيم عام 1973 بل هو الذى صاغ أمر القتال العسكرى لتلك الحرب الظافرة.
إن مقالات هيكل تحتاج الى مراجعة أمينة وصادقة وإذا كانت السيدة الفاضلة الأستاذة الدكتورة هدى جمال عبد الناصر قد أسدت خدمة جليلة للتاريخ المصرى المعاصر بتجميع وتبويب وفهرسة وتحليل فترة حكم أبيها من خلال الوثائق والمراسلات والخطب العامة فإن ذلك يكتمل بالضرورة عندما نغوص فى كتابات هيكل الأقرب إلى عبد الناصر بل هو شريك فى صياغة كثير من مواقف الزعيم وبياناته ووثائقه.
وأنا أهيب بأبناء الكاتب الكبير أن يقوموا بالسعى لجمع وثائق الأب الراحل وكل ما حازه من مراسلات وبرقيات ومصادر للمعلومات فذلك جزء من تاريخ وطنهم الذى يعتزون به لأنهم ورثوا عن أبيهم ذلك الشعور بالكبرياء الوطنى الذى نفتقده دائمًا، وإذا كان الدكتور (على هيكل) قد انصرف إلى مهنته كأستاذ طب مرموق برع فى مجاله، وإذا كان الدكتور (أحمد هيكل) قد أعطى وقته وجهده للنشاط الاقتصادى والاستثمارى فإننى أهيب بالابن الأصغر الدكتور (حسن هيكل) وهو فى الأساس خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن يضع هذا الهدف أمام ناظريه ليتم رسالة والده، ويقدم للمكتبة الوطنية الرسمية ولأرشيف الدولة ما يمكن أن يكون إضافة تاريخية خالدة لذلك الكاتب الراحل الذى يفتقده الوطن بل وأفتقده شخصيًا شعاعًا للضوء ومصدرًا للاستنارة وجرس إنذار مبكر يقوم بعملية استباق وقائية للمخاطر المحتملة والتحديات القادمة.
وقد علمت أن نيران الإرهاب قد حصدت جزءًا من المكتبة الوثائقية للكاتب الراحل بهجوم غادر على مقره فى (برقاش) غداة فض اعتصام (رابعة العدوية) منذ ثلاثة أعوام ولكننا نأمل أن يكون لدى الأسرة المحترمة ما يمكن تقديمه للشباب المصرى والأجيال القادمة التى تشعر بحالة انفصام عن تاريخها القريب حتى أصبحت غير قادرة على فهم حاضرها أو استشراف المستقبل من خلال المشهد الحالي، فالذاكرة الوطنية هى التى تحفظ تراث الأمة وتعبر عن المخزون السياسى للوطن مهما طال الزمن.
إن اصدار مركز الأهرام للنشر مقالات (بصراحة) من بدايتها إلى نهايتها فى سلسلة مهمة من الأجزاء عبر السنين المتتالية هو خدمة كبيرة للمؤرخين والباحثين والساسة بل وعامة الناس، إنه تصرف يذكر دائمًا للأهرام ويبقى تأثيره مشعًا ومضيئًا، ومصدرًا للمعرفة لا يخبو نوره أبدًا!.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47384
تاريخ النشر: 30 أغسطس 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/548384.aspx