يُجمِع كتاب الفترة الليبرالية فى التاريخ المصرى الحديث ـ بين ثورتى 1919 و1952ـ على أن انتماء مصر البحر متوسطى هو انتماء تاريخى وثقافى بامتياز، لأن الحضارة الفرعونية القديمة قد امتدت لتكون غطاءً للحضارتين اليونانية والرومانية، ولم يكن ذلك تواصلًا جغرافيًا، ولكنه كان وجودًا مباشرًا على أرض مصر التى فتحت أبوابها عبر التاريخ كحضارة ملتقى تحتوى كل من يفد إليها وتستوعب بحضارتها الملهمة كل الثقافات القادمة، وعندما كتب «طه حسين» رائعته الشهيرة «مستقبل الثقافة فى مصر» وعندما كتب «توفيق الحكيم» تحفته الخالدة «عصفور من الشرق»، فإنهما وغيرهما كانوا يعزفون على نغمة مشتركة تصدر من ذلك التوافق بين ثقافات المتوسط الممتدة من الحضارات الكبرى فى مركز الكون، وهنا أستأذن القارئ فى طواف سريع يدور حول بعض الملاحظات:
أولًا: لا يجادل أحد فى أن الحضارة المصرية القديمة هى أم الحضارات، والذى يتأمل تاريخ دول حوض البحر المتوسط سوف يكتشف أن الفراعنة العظام قد تسيدوا المنطقة ونشروا أضواء ساطعة لدولة مركزية قوية فى حقبة باكرة من التاريخ، وعندما قدم الإغريق إلى مصر التى بدأ المسيرة إليها «الإسكندر الأكبر» المقدونى مدفوعًا بأحلام شاب فى تكوين إمبراطورية كبرى تصل من مصر إلى أرض فارس، ولقد نصحه مستشاروه بأن يبدأ فور وصوله إلى مصر بزيارة معبد الإله «آمون» وينصب نفسه ابنًا للإله حتى يتقرب إلى قلوب المصريين، وقد فعل ذلك حتى يستطيع أن يحكم تلك الدولة القوية المنيعة التى أسسها فراعين مصر لتصبح جسرًا بين الشرق والغرب، وقد جاء بعده قادته العسكريون ليتواصل حكم البطالمة ويفتح بوابة الامتداد بين الحضارتين المصرية والهيلينية.
ثانيًا: إن البحر الأبيض المتوسط هو بحيرة الحضارات القديمة، فقد أطلت عليه فى البداية الحضارة الفرعونية، ثم الحضارة الإغريقية حتى وصلنا إلى سيطرة الرومان على البحر المتوسط تحت شعار السلام الرومانى Pax Romana الذى احتوى قلب العالم القديم وأصبحت الإمبراطورية الرومانية هى مركز الثقل وامتد حكمها ليشمل جنوب أوروبا وشمال إفريقيا وغرب آسيا، بما فى ذلك الدولة المصرية بتاريخها العريق، وهنا لا بد أن نعترف بأن التاريخ المصرى عرف عصور انتصار وانكسار وموجات صعود وهبوط، وظل دائمًا حجر الزاوية لأكبر دولة فى جنوب المتوسط.
ثالثًا: إن الهوية المصرية تقوم على أعمدة عدة، منها ما هو إفريقى، وما هو عربى، وما هو إسلامى، وما هو بحر متوسطى، وما هو شرق أوسطى، ولكن ليس ثمة خلاف بينها أو تعارض بين وجودها مجتمعة، فالتعددية والتنوع كلاهما يعطى مذاقًا خاصًا عند تشكيل الهوية التى تمثل سبيكة من معادن مختلفة، ولذلك فإن أبعاد الشخصية المصرية تتسع لتحتوى مجالات متعددة وميادين مختلفة، وذلك يعطيها بالضرورة قدرة أكبر على الحركة ويجعل للدبلوماسية المصرية توجهات مرنة، كما يعطيها القدرة على فتح آفاق جديدة تقلل من الضغوط التى تعانى منها مصر عبر تاريخها الطويل، لذلك أصبحت الهوية المصرية تعبيرًا عن ثقافة الملتقى بكل أطيافه وألوانه.
رابعًا: لقد تعرض جنوب البحر المتوسط وشماله لظروف تاريخية متشابهة، فشهد الإقليمان ظروفًا وتطورات متقاربة وعندما سيطر «آل عثمان» على غرب آسيا ومنطقة البلقان وأجزاء من شمال إفريقيا، فإن العلاقات بين مصر ودول المتوسط ازدادت توثقًا بحكم المعاناة المشتركة من جراء الاستبداد التركى، ولعل ذلك يفسر التقارب بين مصر واليونان فى العقود الأخيرة.
خامسًا: لقد بدأ فصل جديد فى علاقة مصر بدول شمال البحر المتوسط، تجسد ذلك فى التنسيق الذى شهدته السنوات الأخيرة بين مصر واليونان وقبرص فى مواجهة تحديات غير مبررة من جانب الجمهورية التركية، ولعل المواجهة الأخيرة حول (الغاز) فى أعماق البحر المتوسط هو دليل على حالة العداء الكامنة بين تركيا وجيرانها، على نحو يزيد هؤلاء الجيران ترابطًا، رغم قسوة الظروف وتراكم الضغوط من كل اتجاه.
إن الجغرافيا قد حكمت وتضافرت معها ظروف تاريخية مشتركة، جعلت علاقة مصر بدول حوض البحر المتوسط ترجمة حقيقية لما نادى به الآباء الكبار من «طه حسين» و«توفيق الحكيم» و«أحمد لطفى السيد» وغيرهم.. إنها رواية لا تنتهى.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1427637