لا يوجد في تاريخنا أو تاريخ غيرنا نظم حكم مثالية فلكل منها ما له وما عليه، ولازال مؤرخو فجر الإسلام وضحاه يتحدثون عن عمر بن الخطاب وعدله وعن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز وفضله تمييزًا لهما وتقديرًا لكل منهما مع اختلاف الأحكام التاريخية والموازين المتصلة بالدعوة والدفاع عنها ولكن العدل والزهد والانصراف لخدمة المسلمين قد جعل منهما نموذجًا واحدًا لحكم مثالي أو شبه مثالي، وإذا أخذنا بالقياس على نظم الحكم في عصور أخرى وثقافات مختلفة فسوف نجد أن القياس صحيح وهو أن لكل فترة زمنية حاكم يبرز مشهورًا بعدالته ونزاهته وخبرته، والذين قالوا إن الله قد جعل للمسلمين على رأس كل مائة عام من يجدد تفكيرهم ويحيي الروح الصحيحة لدينهم كانوا يعبرون عن نماذج تاريخية تكررت في عصور مختلفة وفي ظل حضارات متعددة لا تقف عند الحضارة العربية الإسلامية وحدها ولكنها تتجاوز ذلك إلى حضارات أخرى وثقافات متعددة، ويزعجني كثيرًا أن أحكامنا على حكامنا في أحقاب التاريخ المختلفة لا تبدو عادلة أو موضوعية بل تتسم بقدر كبير من التقديرات الموروثة عن تراكم القصص وكم الروايات بل وأحيانًا الشائعات فتكون أحكامنا غالبًا سماعية لا تقوم على تحليل سليم ولا حتى على معلومات دقيقة، وأنا ممن يظنون أن محاولات رد الاعتبار لبعض الحكام هي حق تاريخي لهم بل وحق تاريخي للأجيال القادمة أيضًا ، وكما قلنا في التاريخ المصري الحديث أن الخديوي إسماعيل قد ظلم ظلمًا كبيرًا جعله بحق (إسماعيل المفترى عليه) فأنا أرى شخصيًا أن الملك فؤاد الأول في مصر لم ينل حقه هو الآخر رغم الاعتراف بجهامته وضعفه أمام المحتل الأجنبي إلا أنه يستحق الآن مراجعة أمينة لفترة حكمه قد تنصفه بما أقامه من مؤسسات ثقافية وكيانات تعليمية وصلت إلى إنشاء أول جامعة ترأس هو مجلس إدارتها فضلًا عن الجمعيات الملكية المتخصصة مثل التاريخية والجغرافية التي كانت تبدو وقتها غير قابلة للمقارنة في الشرق ولكن تبدو متوازية فقط مع دول غربية متقدمة حينذاك، وأنا أطالب أيضًا المصريين بإعادة دراسة تاريخ السادات قبل الثورة المصرية وبعدها فقد نجد فيه نموذجًا يشبه محمد علي الكبير في بعض النواحي خصوصًا في الحيازة المفاجئة للسلطة سواء بمذبحة القلعة1811 أو بثورة التصحيح 1971فضلًا عن قدرة اللعب على القوى الدولية لتحقيق أهداف معينة في عصر كل منهما، كما أن قدرًا كبيرًا من السماحة يجب أن يحتل قلوبنا وعقولنا ونحن نكتب عن رجل مثل (عدلي يكن) وخلافه مع الزعيم الوطني سعد زغلول فهناك مدارس في الوطنية تختلف من الاعتدال إلى التشدد ولكنها تبقى جميعًا تحت مظلة الهدف الوطني العام، ويتفق معي القراء أن أحمد عرابي قد ظلم في سنوات عمره الأخيرة ولكن التاريخ رد له الاعتبار خصوصًا بعد ثورة يوليو عام 1952 التي قادها جمال عبد الناصر والذي يبدو أحيانًا خارج سياق التحكيم فالزعيم لا تقاس قيمته بالنجاح والفشل أو الإنجاز والإخفاق ولكن بالروح التي بثها والأفكار التي طرحها والمسلمات التي غيرها، وما أكثر النماذج لا في التاريخ المصري الحديث وحده ولكن في التاريخ العربي أيضًا فأنا أظن أن أشقاءنا العراقيين مطالبون برد شيء من الاعتبار لعبد الكريم قاسم برغم دمويته وارتمائه في أحضان الشيوعيين في وقته ذلك أن نزاهته المادية وحياته المتقشفة تظل نموذجًا فريدًا لا في العراق وحده ولكن في المنطقة كلها وقد انتهت حياته بمشهد مأساوي انتهى بإعدامه في مبنى الإذاعة العراقية حينذاك، وقس على كل هذه النماذج عشرات الحالات من مظاليم التاريخ في الحارات الضيقة وجبابرة العصور في الميادين الواسعة، ورغم أنني أختلف أحيانًا مع مفكر ومثقف كبير بوزن يوسف زيدان إلا أنني ألتمس له العذر والحق في أن يفكر بطريقة مختلفة وأن يعيد تقييم الزعامات والمشاهير في ميادين التاريخ الواسعة وفقًا لرؤية مختلفة أو حقائق مطمورة، وعندما تكلم يوسف زيدان عن صلاح الدين هاج الكل وماج وقد يكون محقًا أو مخطئًا ولكن حق المراجعة وإعادة قراءة التاريخ هي أمور لازمة وضرورية لأن لكل حدث قيمتان الأولى وفقًا للتوقيت الذي وقع فيه والثانية وفقًا للتوقيت الذي يجري فيه مراجعته وتقويم نتائجه، فأنا أجازف أحيانًا وأقول أن سيف الله المسلول خالد بن الوليد والداهية عمرو بن العاص فاتح مصر لم يكونا قائدين مثاليين وأن لكل منهما ما عليه مثل ما له ، وأجازف مرة أخرى وأقول أن الزعيم الوطني مصطفى كامل قد أخذ أكثر مما يستحق مقارنة برفيقه محمد فريد وأن الأب الشرعي للدبلوماسية المصرية محمود فوزي كان محدود العطاء سلبي الدور برغم جهوده بعد تأميم قناة السويس وبعض الومضات القليلة التي جعلته دبلوماسيًا صامتًا يتوهم الناس أن وراءه دهاء بغير حدود، والآن قد حان الوقت لرد الاعتبار للعائلة العلوية منذ محمد علي الكبير الحاكم المؤسس الذي نعتبره أهم بناة مصر الحديثة وصولًا إلى فاروق آخر الملوك الفعليين للعرش العلوي لكي نقرر بارتياح أن هناك إيجابيات كبيرة لمعظم أبناء هذه العائلة باستثناءات بسيطة مثل غرابة شخصية الوالي عباس حلمي الأول وخيانة الخديوي محمد توفيق، أما ما عدا ذلك فهناك عناصر باهرة يتصدرها الخديوي إسماعيل ويقترب منها الخديوي عباس حلمي الثاني الذي كان قريبًا من الحركة الوطنية دائمًا.
أيها السادة.. إن تاريخنا المصري والعربي يحتاج إلى قراءة جديدة دون أفكار مسبقة أو شعارات معلبة في قوالب من الشائعات المغلوطة التي توارثتها الأجيال.. مرحبًا بالموضوعية الكاملة والحياد الأكاديمي الحقيقي من أجل تشكيل رؤية الأجيال القادمة لماضيها الوطني وتاريخها القومي.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 24 سبتمبر 2019.