كان تراجع المشروع القومي بعد نكسة عام 1967 دافعاً للمشروع الإسلامي
تجاوز الإسلام حدود الديانة ليكون أيضاً قوميَّة لدول شمال أفريقيا العربيَّة، ذلك أن شعوب تلك الدول تتحدث لغة ينازع فيها الطابع الفرنسي الوجود العربي، خصوصاً قبل الصحوة القوميَّة التي أدت إلى نجاح حركة التعريب في الجزائر، وكانت إيذاناً بالتحوّل الكبير في هُويَّة تلك الدول، ولو أخذنا النموذج الجزائري كدراسة حالة لاستكشاف ما نسعى إلى تأكيده فإننا نتذكَّر أن ذلك الشعب الباسل قاوم الاستعمار الفرنسي ببشاعته وضراوته، بينما الطرفان يتحدثان تقريباً لغة واحدة، هي الفرنسيَّة، فكان مصدر التمييز الوحيد بينهما هو الدين، حتى أصبح الإسلام بحق ديناً وقوميَّة في آن واحد، فالذي يفرق بين الجزائري العربي والأجنبي المقيم هو عامل الديانة، لذلك التصق الجزائريون بدينهم، واعتصموا به، ولعل ذلك يفسّر إلى حدٍ كبيرٍ قوة التيار الإسلامي في ذلك البلد الأفريقي العربي المسلم، ولقد قال عبد الحميد بن باديس: (شعب الجزائر مسلم، وإلى العروبة ينتسب، من قال حاد عن أصله، أو قال مات فقد كذب).
ولقد كان الاختلاف بين العربي والأوروبي معتمداً على عنصر الديانة في دول شمال أفريقيا، بينما الأمر يختلف عن ذلك في المشرق العربي، حيث نجد أن العروبة ليست بالضرورة ملتصقة بالإسلام أو مقترنة به، لكن الأمر يختلف في شمال أفريقيا عنه في غرب آسيا، ولعلي أطرح هنا عدداً من المحاور حول هذا الموضوع الدقيق الذي يعتبر مِفتاحاً لفهم شخصيَّة بعض الشعوب في شمال أفريقيا، وتفسير مدى التزامها بظاهرة الإسلام السياسي، ومنها ما يلي:
أولاً: إن أحدث الدراسات المتصلة بالفكر القومي تشير إلى بروز اللغة، باعتبارها العامل الأساس والمتغير المستقل في تحديد الهويَّة وتشكيل القوميَّة، ولم يعد علماء السياسة يعطون للدين ذلك الوزن الذي كان يتمتع به في تحديد العوامل المؤثرة في الفكر القومي، وتصدّرت اللغة كل العوامل المرتبطة بذلك، فاللغة هي تعبير وسلوك وثقافة، وهي التي تشكّل الجماعة البشريَّة المتجانسة في ظل مجتمعات تنصهر فيها باقي الفروق القائمة ما دامت اللغة مشتركة، ولذلك فإن لغة شعوب مثل تونس والجزائر والمغرب هي لغة عربيَّة (متفرنسة) أحياناً، لكنها تجعل للهُويَّة العربيَّة كياناً قائماً يستند بالدرجة الأولى إلى روح الإسلام، فكل دول شمال أفريقيا يدين سكانها - عرباً وأمازيغ- بالإسلام، وكل ما لا يدين به فهو أجنبي عنها أو وافد إليها.
ثانياً: لا يختلف اثنان على أن القوميَّة العربيَّة هي ابنة شرعيَّة للمشرق العربي، خصوصاً منطقة الشام الكبير، حيث ازدهرت الأفكار القوميَّة على يد الشوام في بلادهم أو في المهجر، واللافت في هذا الأمر أن نسبة كبيرة ممن حملوا لواء القوميَّة كانوا من المسيحيين -بطوائفهم المختلفة- وذلك يعني أن الشوام نجحوا مبكراً في فصل الدين عن القوميَّة، لذلك استقرت لديهم الأفكار الوحدويَّة والتوجهات المرتبطة بالدولة القوميَّة، وليست تلك المرتبطة بالدولة الدينيَّة، ولم يكن ذلك هو الأمر بالنسبة إلى دول المغرب العربي، حيث كان الإسلام بالنسبة لها -كما أسلفنا- ديناً وقوميَّة فهو معيار التفرقة بينهم وبين المستعمر الذي تتشكل هويته من معيار لا يتصل بعامل اللغة، ولكن قد يقترب من عامل العقيدة الدينيَّة، وهذا أمر مهم للغايَّة عند دراسة الحالة الشمال أفريقيَّة وتمييزها عما جرى في المشرق العربي.
ثالثاً: إن الذين درسوا الحالة المصريَّة لدولة تقع في شمال أفريقيا على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، وتحتل ركناً في الشمال الشرقي للقارة الأفريقيَّة اكتشفوا أن الحركة الوطنيَّة المصريَّة تأثرت بالتيارات الإسلاميَّة أكثر مما تأثرت بالتيارات العروبيَّة، فمصر لم تعرف العروبة السياسيَّة بمفهومها العصري إلا في عهد "عبد الناصر"، بينما كان النضال الوطني لـ"أحمد عرابي" و"مصطفى كامل" يمضي تحت مظلة الإسلام وعباءة السلطان العثماني، ذلك أن مصر كانت تواجه الاستعمار البريطاني فكانت المواجهة بين شعب مسلم وأمة مسيحيَّة على الجانب الآخر، وهو أمر لم يكن وارداً بالنسبة إلى عرب سوريا الكبرى، حيث كانوا يناضلون ضد الأتراك الذين يشتركون معهم في الدين، لكن يختلفون عنهم في القوميَّة، لذلك كان طبيعياً أن يعتصم الشوام بالقوميَّة العربيَّة، وأن يؤكدوا انتماءهم إليها دون إعلاء قدر الانتماء الديني والاختلافات التي تنجم عنه، وتعتبر الحالة المصريَّة حالة كاشفة بالنسبة إلى ما جرى في شمال أفريقيا، حيث لعبت العقيدة الدينيَّة الدور البارز في التفرقة بين شعوب الأغلبيَّة الساحقة فيها من المسلمين مع أقليَّة محدودة من اليهود مثلما هو الأمر في (جربة التونسيَّة)، وبعض مناطق المغرب، بينما السواد الأعظم يدين بالإسلام، ولا يرى سواه هُويَّة مشتركة تجمعه بغيره.
رابعاً: لقد ثار الجدل تاريخياً في تحديد العلاقة بين الدين والقوميَّة -بين الإسلام والعروبة- وهل هناك علاقة تلازم بينهما؟ بل لقد أكد الإسلاميون أن الدين الحنيف هو الذي حمل القوميَّة العربيَّة إلى دول المنطقة، حتى إن بعضها قبل الدين وتحفظ على الثقافة مثلما هو الأمر بالنسبة إلى إيران وتركيا -على سبيل المثال- بينما اعتنق السواد الأعظم مفهوماً عصرياً يؤمن بالتعدديَّة الدينيَّة في ظل التوحد الثقافي أو الانضواء تحت مظلة الدين الحنيف، فالخلاصة -في هذه النقطة تحديداً- هي أن هناك من يرى أن العروبة هي التي حملت الإسلام إلى الأقطار الجديدة، وأن هناك أيضاً على الجانب الآخر من يرون أن الإسلام هو الذي حمل فكرة القوميَّة إلى باقي الرقعة العربيَّة، ولولاه ما تيسر للعرب أن يلتقوا حول رؤيَّة واحدة رغم الاختلافات والصراعات والنوازع المتضاربة أحياناً.
خامساً: تأرجحت دول شمال أفريقيا مثل كثير من الدول الإسلاميَّة بين المشروعين القومي العربي والديني الإسلامي، وقد احتدم الصراع بين المشروعين فارتبط المد الناصري لسنوات الحلم العربي بالقوميَّة كتيار تأثرت به الحركات السياسيَّة المختلفة، فكان الإسلام السياسي بحق هو ابن شرعي لعرب أفريقيا، وهم بالمناسبة يمثلون ثلثي عدد العرب في العالم، وقد اختلفت أهميَّة المشروعين وفقاً لفترات زمنيَّة معينة فقد كان تراجع المشروع القومي بعد نكسة عام 1967 دافعاً للمشروع الإسلامي، لكي يتصدر المشهد، ويصبح هو التوجه الأساس لمجموعة من الدول الإسلاميَّة، وقد غذت ذلك ودعمته تيارات فكريَّة معروفة اعتمدت على مفهوم الحاكميَّة في الإسلام وضرورة الالتزام بتعاليم السلف الصالح، ولذلك لم يكن غريباً أن اجتاحت الجزائر موجات من الإرهاب باسم الدين، كما أن دولاً أخرى عانت من أعراض مشابهة في فترات لاحقة.
إن دراسة أحوال شمال أفريقيا بين الدين والقوميَّة، بين الإسلام والعروبة تدعونا إلى تأمل المشهد من بعيد لكي نرى أولئك الذين يغلّبون وجهة النظر الدينيَّة بينما ننظر أيضاً إلى فصائل العمل السياسي المستندة إلى الفكر القومي دون اعتبار كبير بالعقيدة الدينيَّة، وإن كانت لا تنكرها، بل تؤمن بأهميَّة اتجاه الإسلام إلى الأمام.
جريدة اندبندنت عربية
https://www.independentarabia.com/node/60106/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A9