يبدو أن الحكمة الإلهية قد اختصت مصر بتعددية متجانسة ذات إيقاع واحد في النهاية وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الأرض الطيبة حقلًا مزدهرًا لتجارب إنسانية متنوعة، ولأن الكنيسة القبطية هي واحدة من أقدم كنائس الأرض فضلًا عن أنها كنيسة لاتزال محافظة على طابعها الأصيل لأنها قاومت دائمًا محاولات التغيير الخارجي وتمسكت بالثوابت التي جعلت لها شخصية متميزة بين كنائس العالم من مختلف المذاهب المسيحية، لذلك يبدو أن التعايش بين المسلمين والأقباط قد صنع هو الآخر نوعًا من الترابط والارتباط بالعقيدة الصحيحة والابتعاد عن المذاهب الدخيلة والأفكار العابرة، ولقد لفت نظري أن بطاركة الكنيسة القبطية منذ ثورة عام 1952 قد جاءوا متوائمين مع الظروف المحيطة بكل منهم وكأنما أراد الله أن يكون التآلف هو سمة طبيعية بين بطاركة الكنيسة وولاة الأمور في الدولة المصرية، ولقد شهدت بداية الخمسينيات نوعًا من الاضطراب في أحوال هذه الكنيسة العريقة كان من مظاهرها تشكيل جماعة (الأمة القبطية) بقيادة إبراهيم هلال ثم محاولة حادث القطار التي انتهت بخلع البطريرك الذي لم يكن مقبولًا عند جمهرة الأقباط فضلًا عن ضعف شخصيته أمام سكرتيره ومساعده إلى أن وصل عام 1959 إلى مقعد البابا ناسك عظيم وأعني به البابا (كيرلس السادس) ولهذا البابا المبارك تاريخ عريض أثناء الرهبنة وقبل أن يجلس على الكرسي البابوي فقد كان ناسكًا عابدًا زاهدًا يعيش في (قلاية) بالصحراء حتى أن قوات من الحلفاء رأوا ذات مساء كوة ضوء خافت يتسلل في الصحراء المظلمة فظنوها موقعًا عسكريًا مختفيًا فإذا هو ذلك الراهب الزاهد الذي انصرف عن الدنيا واتجه بقلبه وعقله صوب الإيمان الذي يبتغيه، وعندما وصل هذا البابا الذي اعترفت به الكنيسة قديسًا ولازالت صوره تزين منازل الأشقاء الأقباط ومحالهم حتى الآن هو ذاته البابا الذي انتقده بعض المتحذلقين من الأقباط بدعوى أنه توقف عند إتمام دراسته الثانوية إذ لم تكن الشهادات الجامعية بهذا الشيوع الذي رأيناه بعد ذلك، ولقد عمل هذا القديس في مدينة دمنهور بإحدى المصالح الحكومية والطريف أن دمنهور هذه شهدت أيضًا فترة من حياة البابا الراحل (شنودة الثالث) مع شقيقة الذي كان يعمل هناك، وهي نفسها دمنهور التي عاش فيها الأب (متى المسكين) الذي كان يملك صيدلية مصر في ميدان الساعة ثم باعها بعد ذلك لصيدلي معروف هو الدكتور عدلي رفله واتجه هو إلى سلك الرهبنة فكان الأب صاحب الأفكار التقدمية التي لاتزال تثير جدلًا في أروقة اللاهوت الأرثوذكسي وقد غادر المدينة في أواخر الأربعينيات ليبدأ حياة روحية خالصة انتهت بخلاف فكري مع البابا شنودة الثالث وبعض رفاقه ولازال للأب متى المسكين مكانة خاصة في قلوب كثير من الأقباط المعاصرين، نعود إلى قداسة البابا كيرلس بورعه وتقاه وهو الذي اقترب من الرئيس عبد الناصر بعد سنوات قليلة من جلوسه على مقعد البابا حتى أنه كان يزور الزعيم في منزله، ولعلنا نتذكر قصة حصالات أبناء جمال عبد الناصر التي كسروها ليضعوا ما فيها من نقود قليلة مشاركة رمزية من الطفولة المسلمة في بناء كاتدرائية تبرعت فيها الدولة بمبلغ مناسب في وقتها وجرى وضع حجر أساسها في حضور الإمبراطور هيلا سيلاسي نظرًا للارتباط الذي كان قائمًا بين الكنيسة المصرية والكنيسة الإثيوبية وقد تغير الموقف كثيرًا بعد ذلك حيث استقلت الكنيسة الأثيوبية بل ودخلت معنا في صراع على (دير سلطان) في القدس وهو أمر مؤسف كنا نتمنى ألا يحدث خصوصًا وأن الدير هو امتداد للكنيسة القبطية المصرية منذ عدة قرون ولكن إسرائيل لعبت على ذلك الخلاف كما لعبت على خلاف آخر بينهما فيما بعد حول مياه النيل بعد بناء سد النهضة، وكأنما شاءت الأقدار أن يرتبط الزعيم القوي جمال عبد الناصر بالبابا الهادئ الذي لا تعنيه الدنيا كثيرًا فكان هناك تصالح كيميائي بين الرجلين في فترة وجودهما حتى أن رحيل الرئيس عبد الناصر قد تلاه بفترة وجيزة رحيل البابا الزاهد الذي كان يتبرك به المسيحيون والمسلمون على حد سواء، وبوصول الرئيس أنور السادات إلى الحكم برؤيته الجديدة لسياسات مصر الخارجية وأحوالها الداخلية قدمت (مدارس الأحد) واحدًا من أبرز روادها وهو أسقف التعليم البابا شنودة الثالث بشخصيته القوية وعناده الصبور لكي تلعب الكيمياء السلبية دورًا مؤسفًا في العلاقات بين رئيس الدولة وبابا الكنيسة، وقد بدأ الصراع منذ الأحداث الطائفية في الخانكة والزاوية الحمراء وما تلاه من تمدد التطرف الإسلامي والذي تبعه بالضرورة مخاوف قبطية بل وتعصب ديني على الجانبين كرد فعل طبيعي، فالتطرف يصنع العنف ويعطي شحنات من القلق الذي يسيطر على أجواء البلاد وذلك ما حدث حتى أقدم الرئيس الراحل أنور السادات على خطوة غير مسبوقة بأن أعلن سحب اعتراف الدولة بخاتم البابا شنودة الثالث وعين بديلًا عنه لجنة من كبار الأساقفة، ولقد وقعت في يدي رسالة من الأب متى المسكين إلى الرئيس الراحل أنور السادات يناشده الترفق بالموقف عمومًا ويوصيه خيرًا بالعلاقة بين المسلمين والأقباط ويدعوه بخط يد جميل للغاية بأن يسمح للسحابة التي خيمت على سماء البلاد أن ترحل عنه متحدثًا عن البابا شنودة الثالث بتوازن واحترام رغم الخلافات في الرأي المعروفة بينهما، وقد ذهب البابا شنودة الثالث إلى منفاه الاختياري في الدير حتى أطاحت رصاصات ظالمة بحياة رئيس يعتبر من أفضل رجال الدولة في تاريخ مصر الحديث برغم ما له وما عليه، والآن دعنا ننظر إلى خليفة البابا شنودة وأعني به البابا تواضروس الثاني المعروف برحابة الصدر وسعة الأفق وحسن التدبير، كان صيدليًا قبل الرهبنة وتربى أيضًا في مدينة دمنهور مع أن أصوله من مدينة المنصورة وقد تآلفت الكيمياء بينه وبين الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يقود البلاد في اتجاه لا يختلف الأغلب الأعم من المصريين على تقديره مهما كانت صعوبات المرحلة ومعاناة الفترة التي نمر بها، وإذا كان البابا شنودة هو صاحب العبارة المنقولة عن مكرم عبيد باشا والتي يقول فيها: إن مصر ليست وطنًا نعيش فيه ولكنها وطن يعيش فينا، فإن البابا الحالي قد قال ما هو أروع عندما ردد أن الكنائس لو هدمت فسوف نصلي في بيوت الله الأخرى لأن وطنًا بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن، ولقد حقق البابا الحالي نجاحات ضخمة منها أن رئيس الدولة المصرية يتبنى مبدأ المواطنة ويزور الكاتدرائية في صلاة عيد الميلاد كما بنى أكبر كاتدرائية في العاصمة الجديدة، وأنا أزعم – باعتباري متخصصًا في شئون العلاقة بين المسلمين والمسيحيين – أن الوحدة الوطنية المصرية تمر بأزهى عصورها بسبب حاكم يدرك نظرة الإسلام الحقيقية لأهل الكتاب وبفضل بابا الأقباط الذي يتسم بالحكمة والتوازن وحسن المعشر.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 15 أكتوبر 2019.