إن العلاقة بين السلطتين الزمنية والروحية قد مرت في تاريخ البشرية بمراحل متعددة بدءًا من دمجهما في صورة (الملك الإله) وصولًا إلى الصدام أثناء العصور الوسطى في أوروبا يوم أن جثا أحد الأباطرة على ركبتيه أمام مقر البابا طالبًا المغفرة والبركة ولم يكن السبب في ذلك هو خضوع الإمبراطور للسلطة الدينية بقدر ما كان يعلم أن الطريق إلى قلوب الناس يمر بأبراج الكنائس ومآذن المساجد، فالدين هو أبسط الأيديولوجيات أمام البشر وهو يبدأ معهم من الطفولة بل ويرون فيه امتدادًا لما فعله الآباء والأجداد، إننا نتذكر أن الإسكندر الأكبر عندما وصل إلى الشاطئ المصري للبحر المتوسط تفهم الديانة المصرية وحاول المزاوجة بينها وبين الديانة اليونانية التي جاء بها إلى أن أدرك أن الوصول إلى قلوب المصريين يمر بآلهتهم فسعى إلى معبد آمون في سيوه حتى يكون ابنًا للإله وقريبًا من ديانة المصريين حينذاك، كما أن نابليون بونابرت عندما وفد إلى مصر على رأس حملته وجد في طريقه من يعد له منشوره الشهير الذي يتودد فيه إلى المصريين معلنًا احترامه للإسلام ساعيًا إلى تخليصهم من سطوة العثمانيين وبطش المماليك فقد أدرك مستشاروه أن الطريق إلى قلوب المصريين يمر بدينهم، وفي مصر الإسلامية ومنذ قيام الأزهر الشريف لم تحدث صدامات حقيقية بين الحاكم وشيخ الأزهر واستقراء ذلك في العقود الأخيرة يؤكد هذا المعنى إلا ما يشاع أحيانًا بغير سند تعبيرًا عن خيال مريض، يصنع الأوهام، ويتصور خلافًا غير موجود وقد أجلى الأستاذ حلمي النمنم وزير الثقافة السابق في مقال أخير العلاقة بين الملك فاروق والإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي الذي تولى منصب المشيخة مرتين وكان له دور ملموس ومحسوس في الحياة العامة مفنًدا الإدعاء بأن فاروق قد طلب من الإمام الأكبر ـــ وهو ليس مصدرًا للفتوى ـــ بأن يمنع طليقته الملكة فريدة من الزواج بعده، والقصة والرواية كاذبة من أساسها فقد مات المراغي قبل الطلاق بسنوات ثلاث فضلًا عن روايات تشير إلى أن الملكة السابقة كانت محل إعجاب بمصور شهير وشخصية أخرى مرموقة من البيت المالك وكان ذلك مصدرًا لقلق فاروق وتوتره الدائم في علاقاته بالمرأة عمومًا، ولم يكن الأزهر طرفًا في هذا الهراء من قريب أو من بعيد كما أن أحد شيوخ الأزهر العظام وأظنه الشيخ عبد المجيد سليم هو من قال منتقدًا رحلات الملك إلى أوروبا بقوله: تقتير هنا وتبذير هناك! وأحسب أيضًا أن أحد مشايخ الأزهر الكبار قد انتقد إعلان مصر الحرب مع الحلفاء ضد دول المحور وقال قولته الشهيرة:إنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، والخلاصة أن شيوخ الأزهر في العصر الملكي قد امتلكوا القدرة على إبداء الرأي والابتعاد عن مواطن الزلل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا إلى أن قامت ثورة يوليو 1952 وتقلب على المنصب الأزهري الرفيع علماء أفاضل منهم أزهري تونسي من أصل جزائري هو الشيخ الخضر حسين وقد كان ذلك تأكيدًا لأممية الأزهر الشريف باعتباره جامعة إسلامية كبرى ومستقرًا لأتباع مذهب السنة في العالم كله، ثم كان هناك الشيخ عبد الرحمن تاج، وجدير بالذكر أن أحد مشايخ الأزهر قد حمل لقب الباشا وأعني به سليل بيت عبد الرازق العريق الشيخ مصطفى وشقيقه الأزهري العظيم عليّ عبد الرازق صاحب الكتاب المحوري (الإسلام وأصول الحكم) والذي هدم به أطماع فؤاد الأول في خلافة المسلمين بعد سقوط الخليفة العثماني الأخير كما أن أحد شيوخ الأزهر قبل ذلك أيضًا بعقدين أو أكثر كان هو الشيخ حسونة النواوي والد عبد الخالق باشا حسونة محافظ الإسكندرية ووزير الخارجية وأمين عام جامعة الدول العربية لما يقرب من عشرين عامًا، ولقد لاحظت شخصيًا أن كثيرًا من أبناء شيوخ الأزهر قد تعلموا تعليمًا جيدا وتبوأوا مناصب رفيعة بدءًا من أحمد مرتضى المراغي باشا وزير داخلية الملك فاروق في أواخر عهده وصولًا إلى عدد من كبير من الدبلوماسيين المرموقين من أبناء مشايخ الأزهر من عائلات عبد الرازق والظواهري وعبد الحليم محمود وعبد العزيز عيسى وغيرهم من ائمة الإسلام الكبار، وهذه الاستنارة تحسب للأزهر شيوخًا وعلماء، والحق يقال هنا أن المناخ الليبرالي قد أعطى الأزهر في مرحلة معينة قبل ثورة يوليو 1952 قدرًا من المرونة بدءًا من الشيخ محمد الخراشي الذي كان يلوذ به الناس وصولًا إلى كل من سبقوا ثورة يوليو من مشايخ الازهر الشريف، وأتذكر الآن الإمام الأكبر الشجاع ابن البحيرة الشيخ محمود شلتوت الذي جاء من محافظة قدمت نسبة عالية من رجال الأزهر الشريف بدءًا من الإمام محمد عبده وصولاً إلى مشايخ كبار من أمثال إبراهيم حمروش وعبد العزيز عيسى ومحمد مدني ومحمود حب الله، ورغم أن الإمام المجدد لم يتولى مشيخة الأزهر ومات وهو في منصب الإفتاء إلا أن اسم محمد عبده يبقى في تاريخ الإسلام ساطعًا ومشرقًا وإن كانت آراؤه العامة أكثر تحررًا من فتواه الدينية، كما أن الشيخ شلتوت هو صاحب الفتوى الشهيرة للتقريب بين المذاهب الإسلامية ونتذكر أيضًا عالمًا فاضلًا تولى الإفتاء ومشيخة الأزهر وهو الشيخ حسن مأمون ــــ خال الكاتب الكبير صلاح منتصر ـــ وقد ترك منصبه بعد تصريح له ينتقد فيه القرارات الاشتراكية، وعندما جاء الشيخ الفحام بتوصية من والد الرئيس عبد الناصر الذي كان صديقًا له كان هو الذي صلى على الزعيم يوم وفاته وهو الذي استقبلته الجزائر الرسمية بأقل مما يليق كرسالة فهمها الرئيس السادات وأصدر بها قراره الجمهوري باعتبار شيخ الأزهر تاليًا في بروتوكول الدولة بعد رئيس الوزراء وعلى كل حال فإن الرئيس الجزائري هواري بومدين عندما علم بالاستقبال غير اللائق بالشيخ الفحام كان في وداعه رسميًا في مطار الجزائر بعد أن أبدى السفير نجيب الصدر ملاحظة على طريقة استقبال الإمام الأكبر شيخ الأزهر وما أكثر الشائعات التي تتردد أحيانًا عن بعض الخلافات بين شيوخ الأزهر ورؤساء الدولة مثلما تردد عن خلاف بين السادات والإمام المتصوف عبد الحليم محمود، ولقد اكتشفت شخصيًا أن كثيرًا من تلك الشائعات غير صحيحة، وتستغل حادثًا عابرًا للمبالغة في اتجاه معين بينما الواقع أن شيوخ الأزهر يحتلون مساحة كبيرة من احترام رؤساء مصر في العقود الاخيرة وحتى علماء الأزهر الذين لم يتولوا المنصب الكبير ينالون قدرًا كبيرًا من احترام رئيس الدولة مثلما كان الأمر مع الشيخين الشعراوي والغزالي .. إن الأزهر الشريف هو محل توقير وتقدير كما أن شيخه محل إجلال واحترام خصوصًا إذا كان رئيس الدولة تقيًا نقيًا في مثل الحالة المصرية الآن حتى وإن اختلفت الرؤى في التفاصيل أحيانًا إلا أن رئيس الدولة هو ولي الأمر وشيخ الأزهر هو إمام المسلمين!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 22 أكتوبر 2019.