تتراكم التجارب وتزدحم الذاكرة ويتساءل المرء لو أن الدنيا عادت به إلى الوراء أتراه كان يفعل كل ما قام به؟ أم أن هناك منعطفات كان يجب أن يتوقف عندها مع وجود لحظات مفصلية غيرت مجرى حياته؟ ثم يتساءل المرء مرة أخرى: هل يندم على أمر فعله أم على خطوة لم يقدم عليها؟ وأنا ممن يؤمنون بأن الندم الإيجابى أفضل كثيرًا من الندم السلبى، فالإنسان يندم على شىء لم يفعله أكثر مما يندم على شىء فعله، وهذه ليست قاعدة عامة فهناك أخطاء يقع فيها المرء، فالإنسان ابن الخطيئة، ورغم أنه خليفة الله فى الأرض إلا أنه عاث فيها فسادًا وتطفو على سطح ذاكرته فى سنوات عمره المختلفة أحداث مزدحمة وشخوص مختلفون وأفكار متداخلة، وقد تتراجع قوة الجسد، لكن قوة العقل تزداد كما أن الطاقة الروحية لدى الإنسان تزدهر، فالحصيلة كبيرة ورغم أن رحلة العمر قصيرة إلا أنها مثيرة وجذابة يخرج المرء منها بانطباعات متناقضة ليكتشف فى النهاية أن المحصلة النهائية لحياته هى تلك اللحظات السعيدة التى قضاها مع أصدقاء يحبهم أو القيام بعمل يهواه، فالحياة، طالت أم قصرت، هى فى مجموعها تلك اللحظات السعيدة رغم أنها متفرقة وغير مرتبطة، ويخرج المرء من رحلة الحياة خالى الوفاض بعد أن يرى الرفاق يتساقطون، وأن الدنيا تتغير من حوله، كذلك فإن النقلة النوعية فى عالم الاتصال والتكنولوجيا قد جعلت للحياة مذاقًا مختلفًا عن ذلك الذى ألفناه فى سنوات العمر الماضية بل إننى أجازف وأقول إن التغير لم يلحق بالأدوات والآليات والتقنيات فقط، لكنه لحق أيضًا بالتركيبة الإنسانية وسلوكيات البشر وحجم الطاقة الإيجابية التى يحملونها أو الطاقة السلبية التى تصدر عنهم وكأننا فى آخر الزمان، وأن ما مضى فى خبر كان، ولقد لاحظت أن التغيرات لا تقف عند حدود طبقة معينة أو شريحة محددة أو قطاع بذاته فالكل يجرى بلا توقف ويمضى نحو غايات قد لا تتحقق وأطماع قد لا تنتهى، ويظل الإنسان عجولًا يدق الأرض فى خيلاء وتُطاول طموحاته عنان السماء، لا يرضى أحد بما قسم الله له ويرى كل فرد أنه شهيد الإنسانية وضحية المجتمع وأنه لم يحصل على ما يستحق ولم يحقق ما يريد، ومن تجربتى فى الحياة اكتشفت أن المعرفة هى أقوى سلاح وهى الثروة الحقيقية لكل من يريد أن يقتحم الحياة فى جسارة وقوة كما آمنت أن الادعاء الكاذب لا مبرر له وأنه لا يجدى فى رحلة الحياة إلا الرصيد الكبير من العلم والفكر والثقافة، ولقد علمتنى الحياة أنه كلما ازداد رصيد الإنسان من المعارف لديه ازداد إحساسه بفقر المعرفة عنده، فتزايد المعلوم لا يؤدى بالضرورة إلى تراجع المجهول بل قد يؤدى إلى العكس ويطرح تساؤلات جديدة فى فلسفة الكون وحكمة الحياة، كما أننى أعترف أن الإنسان هو الإنسان فى كل زمان ومكان، نوازعه المعروفة واحتياجاته المتجددة، تطلعاته التى لا تنتهى ورغباته التى لا تتوقف، وقد اقتضت حكمة الخالق تثبيت النسب المتاحة لكل إنسان بدرجات محددة بدءًا من الصحة مرورًا بالثروة وصولًا إلى الذرية ولا يمكن أن ينال الإنسان كل ما يريد أو يحقق كل ما يبغى فالحياة لا تعطى إلا بمقدار، ولقد كانت طاقات الحياة لدينا فى سنوات الحيوية مدعاة للجرأة فى اقتحام المشكلات وحل الأزمات وها هى تأخذ منحًى مختلفًا يقوم على روح المودة وحب الناس والبعد عن أسباب الشقاق ومصادر الخلاف كما أن أولويات المخلوقات تتغير وفقًا للشرائح العمرية والظروف الاجتماعية والبيئة المحيطة، وإذا كانت الفرص المتاحة قد تراجعت فإن ذلك يرجع إلى فلسفة الزحام التى تطيح بالقيم وتهدم المبادئ، فالفقر إذا تحالف مع المرض وظللهما الجهل فإننا نكون أمام المعادلة الصعبة خصوصًا لأبناء شعوب الجنوب الذين ننتمى إليهم.
إننى أسجل مثل هذه الخواطر فى هذا الوقت من كل عام فالإنسان يتذكر شريط حياته وتلاحقه ذكرياته عندما يتواكب ذلك مع يوم مولده إذ تمر الأيام وتمضى السنون ولا ندرى من نكون!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1440897