إنها معادلة سياسية صعبة تلك التي تتصل بالعلاقة التبادلية بين تعزيز هيبة الدولة في جانب والحفاظ على شرعية الحكم في جانب آخر، أي أنها معادلة تسعى إلى تمكين الدولة من إحداث حالة انضباط عامة وضبط إيقاع المجتمع مع الحفاظ في الوقت ذاته على الأطر القانونية والأخلاقية المتصلة بشرعية الحكم، إنها محاولة للتوفيق بين حد أدنى من الصرامة في مواجهة التجاوزات وفي الوقت ذاته تكون هناك ضمانات للحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، وفي ظني أن الأنظمة السياسية نوعان يعتمد أحدهما على الهيبة والاحترام ويعتمد الآخر على الشعبية التي قد لا تستند إلى أسس موضوعية ترتبط بالمصالح العليا للوطن في فترة معينة ولكنها تقوم على دغدغة المشاعر واستلهام التأييد من خلال سياسات (ديماجوجية)، وأتذكر الآن أنني ألقيت محاضرة في معهد التخطيط القومي عام 1993 وكان الأستاذ الدكتور كمال الجنزوري هو نائب رئيس الوزراء الذي يقع المعهد تحت إشرافه وفي أثناء المحاضرة قلت عبارة دفعت ثمنها غاليًا فقد كانت العلاقات المصرية الأمريكية متوافقة وجيدة بينما العلاقات السورية الأمريكية يعتريها التوتر والشد والجذب حتى أن حافظ الأسد رفض أن يلتقي الرئيس كلينتون في واشنطن وأصر على أن يكون ذلك في مكان محايد فالتقيا في جنيف، يومها قلت في تلك المحاضرة – وقد أكون مخطئًا – أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى مصر بحب وبغير احترام وتنظر إلى سوريا باحترام وبغير حب! ولو سألتني اليوم أيهما أفضل فإنني أفضل الدولة المهابة عن الدولة المحبوبة، فالعلاقات الدولية ليست كالعلاقات بين الأفراد تقوم على الحب والكراهية ولكنها نمط آخر يقوم على التوقير والإحساس بقيمة الدولة ودورها السياسي بغض النظر عن الإعجاب بها أو التوافق مع سياساتها، ولو نظرنا حولنا في عالم اليوم لوجدنا أن الهيبة تسبق المودة وأن الاحترام يتفوق على الإعجاب وأن المصلحة قبل العاطفة، فالولايات المتحدة الأمريكية – على سبيل المثال – قد لا تتمتع بشعبية دولية كافية ولكنها تستأثر بقدر كبير من الهيبة عن بعد والتخوف القائم من تراكم العمليات العسكرية التي دخلت فيها منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن كما أن دولة كبرى مثل الصين قد لا تتمتع بنفس المكانة ولكن لديها رصيد آخر ــــ خصوصًا بين شعوب الجنوب في إفريقيا وآسيا ـــ يجعلها محل توقعات متفائلة بأن تقود العالم بعد عدة عقود رغم أن ذلك أمر ينكره الصينيون في العلن ولا يتحدثون عنه حتى في الحجرات المغلقة فهم يرفضون فكرة الزعامة الدولية بما تستلزمه من نفقات ضخمة تبدأ بتضحيات في الأرواح وتمر على تكاليف الأحلاف ونفقاتها والمعونات والتزاماتها والمؤتمرات ونتائجها، وينسحب ذات الأمر على الوزن الداخلي للنظام السياسي للدولة فقد يكون مهابًا أو محبوبًا ولكنه لا يجمع بين الأمرين في الغالب وربما استأثر النظام الناصري وحده في بعض فتراته بهذه الميزة المشتركة فكانت هيبة الدولة مقترنة بشعبية النظام بسبب كاريزما عبد الناصر ولكن الأمر لم يدم طويلًا فقد أطاحت نكسة عام 1967 بالاثنين معًا ولو لفترة قصيرة، نعود إلى محاضرة معهد التخطيط وما جرته عليّ من ويلات فقد استهجن المسئولون يومها ما قلت ووصل الأمر إلى رئيس الدولة شخصيًا الذي طلب أن يستمع المسئولون المعنيون في الأجهزة السيادية العليا لتسجيل للمحاضرة للتأكد من صحة ما قيل وقد انتهى الأمر بتأجيل نقلي سفيرًا لمدة عام أو ما يزيد تأديبًا للخروج عن النص والتشكيك في هيبة النظام معتبرين ذلك مجاملة للنظام السوري على حساب النظام المصري، ولم يكن الأمر في يقيني بهذا المعنى من قريب أو من بعيد ولكنها ظروف الحكم وحساسيات السياسة، ولعلي أطرح هنا ثلاث ملاحظات تدور حول هذا الموضوع الحيوي الذي نناقش فيه أفضلية هيبة الحكم أم شعبيته وتأثير ذلك خارجيًا وداخليًا:
أولًا: إن هيبة الدولة لا تأتي بدكتاتورية النظام ولا بسياسة القبضة الحديدية ولكنها تأتي من خلال درجة المصداقية التي يتمتع بها النظام السياسي والثقة المتبادلة بين القيادة والشعب فضلًا عن توجه إرادة الدولة لمكافحة الفساد وحماية الحقوق وتكريس سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، وتنعكس الهيبة الداخلية تلقائيًا من المكانة الدولية التي تتمتع بها الدولة في مواجهة المجتمع الدولي كله وهذه نقطة هامة لأن السياسة الخارجية هي امتداد طبيعي للسياسة الداخلية.
ثانيًا: إن شعبية النظام على الجانب الآخر لا تأتي من خلال ترك الحبل على الغارب والقبول بالفوضى وضياع حقوق الفئات الضعيفة أو الطبقات المحدودة الدخل، فالفوضى هي نقيض للدولة المهابة وهي أبعد ما تكون عن الكيان المستقر كما أنها تنال من كيان الدولة بالسقوط في مستنقع (الديماجوجية) والعبث السياسي الذي يبحث عن شعبية رخيصة لا تعطي للدولة في النهاية قيمة داخلية ولا مكانة إقليمية ولا دورًا خارجيًا.
ثالثًا: إن الوضع الأمثل للدولة هو أن تتمتع سلطاتها الثلاث بدرجة من التوازن الكامل وأن تتحدد المهام والأعباء التي تتحملها مؤسسات الدولة مدنية وعسكرية بحيث نصبح أمام مجتمع مستقر ومصداقية عالية وثقة متبادلة بين كافة الأطراف داخل الدولة وخارجها.
هذه ملاحظات عابرة نسجلها للتأكيد على حقيقة واحدة وهي أن العالم حولنا لا يحب ويكره ولكنه يحترم أو يستهين، وإذا كان الاختيار لدينا بين هيبة الدولة أو شعبية النظام فإن هيبة الدولة تسبق الجميع لأنها هي مثار الاحترام ومحل التقدير..عاشت مصر مهابة الجانب قبل أن تكون محبوبة الهوية.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 12 نوفمبر 2019