كانت ليلة عيد «الفطر المبارك» فى آخر ثمانينات القرن الماضى، عندما اتَّصل بى الرئيس الأسبق «حسنى مبارك»، وأنا أعمل سكرتيرًا له للمعلومات، وقال لى: أين ستُصلِّى العيد غدًا؟ فقلتُ له: سوف أصلِّيه فى المسجد القريب من المنزل بـ«مصر الجديدة»، فقال: لا، ستُصلِّيه معى فى مسجد «الحسين»، فقد تمَّت فيه تجديدات شملت المقصورة وأجزاءً من ذلك المسجد الكبير.
لم يكن أمامى خيار إلا أن أكون فى الخامسة والنصف صباحًا أمام منزل الرئيس، حيث تحرَّك بنا الرِّكاب الرسمى إلى مسجد «سيدنا الحسين»، رضى الله عنه، ووصلنا فى السادسة صباحًا، واستمتعنا بتراتيل دعاء العيد بعباراتها الرائعة فى الصباح الباكر.
وأدَّينا الصلاة، وألقى خطيب المسجد خطبة العيد، ثم دعا الرئيس ليتفقَّد المقصورة الجديدة، ويشاهد التجديدات التى جرت فى ذلك المسجد الأثرى الكبير، ووجدتُّها فرصةً لكى أتجوَّل فى المسجد مع تسلُّل أشعة الشمس الأولى فى ذلك الصباح المبارك، واستغرقتُ فى تأمُّل ساحة المسجد ومساحتها الفسيحة، فإذا بى أسمع صفير ركاب السيارات إيذانًا بتحرك الرئيس، الذى انتهى من تفقُّد المقصورة فى دقائق قليلة كنت أحسبها سوف تطول عن ذلك.
وكان أمامى خياران؛ إما أن أهرع إلى سيارتى فى الرِّكاب دون الحذاء الذى تركته فى أحد الرفوف قرب المدخل، وإما أن أبحث عنه وأخرج إلى سيارتى بعد رحيل الرِّكاب، واخترت الخيار الأول؛ لأننى أدركت أن الرئيس سوف يتمِّم على وجودى بعد العودة من الصلاة.
وفعلاً، قفزتُ إلى السيارة وأنا ألبس الجورب فقط، وتحرَّكت السيارة مع الرِّكاب إلى أن وصلنا إلى بيت الرئيس الذى اطمأنَّ إلى وجودى من البداية إلى النهاية فى هذه المهمة الدينية مع ذلك الصباح المشرق فى يوم صيف لطيف الطقس.
عندما كنتُ مرشحًا فى الانتخابات النيابية أمام مرشح إخوانى قوى فى الجماعة نصحنى البعض بالحذر لإمكانية قيام بعض أنصاره بإخفاء حذائى حتى أكون مثارًا للتندُّر وأضحوكة للمُصلِّين
واتَّجهتُ إلى مكتبى فى «منشية البكرى» بمقر السكرتارية الخاصة، حيث أرسلتُ السائق الذى أحضر لى حذاءً آخر من المنزل، واستعوضتُّ الله فى الحذاء الذى فقدتُّه، مع العلم بأنه كان جديدًا!
وعُدتُّ إلى المنزل، وبعد ساعتين، أو ثلاث اتَّصل التليفون الرئاسى الداخلى، فإذا الرئيس يسألنى: كيف كانت صلاة العيد؟ فقلتُ له: إنها كانت مُتعة روحية رائعة، وإننى قد سعدتُّ بها كثيرًا، فصمت قليلاً وقال لى مُداعبًا: ولكن بلغنى أن أحد المرافقين فى الصلاة قد فَقَدَ حذاءه وعاد من دونه! فقلتُ له: يا سيادة الرئيس، حتى هذه أبلغوك بها، وضحكنا، فقد كان الرئيس الأسبق مبارك -وهذه شهادة حق- لطيفًا معنا فى غير أوقات العمل، أما أثناء المقابلات الرسمية والعمل اليومى فقد كان شديد الجدية حازمًا، ولا تبدأ المُداعبات والنوادر إلا فى المركز الرياضى، بعد انتهاء العمل، وقد عرفتُ أن الذى أخبره بهذه الدُّعابة هو اللواء«شريف عمر» مدير أمن مقر رئيس الجمهورية، الذى كان فى سيارة مجاورة ولاحظ الموقف من بدايته.
وما أكثر المرات التى كدتُّ أفقد فيها حذائى أيضًا فى المساجد، ففى أحد الاحتفالات بافتتاح مسجد جديد فى مدينة «دمنهور»، وقد كنت نائبًا لها فى البرلمان، جمعوا منَّا الأحذية -بمن فى ذلك وزير الأوقاف، والمحافظ، وكبار المسئولين- وبعد الصلاة اختلطت الأحذية، ولم يعد كل منَّا يعرف أين حذاؤه، فالبعض وجد إحدى الفردتين ولم يجد الأخرى، وكان الأمر مثيرًا للسخرية والتندُّر من جانب كل الحاضرين، لذلك تعلَّمت دائمًا أن يكون حذائى فى أقرب مكان لى بالمسجد.
وعندما كنتُ مرشحًا فى الانتخابات النيابية أمام مرشح إخوانى قوى فى الجماعة نصحنى البعض بالحذر لإمكانية قيام بعض أنصاره بإخفاء حذائى حتى أكون مثارًا للتندُّر وأضحوكة للمُصلِّين، وقد أخذت الأمر على محمل الجد، فكان يمضى ورائى أحد شباب عائلتى يحمل حذائى فى كيس بلاستيكى ويتبعنى أينما تحرَّكتُ داخل المسجد حتى باب الخروج تفاديًا لمقلب لا ضرورة له ولا مبرر لحدوثه، وما أكثر المناسبات التى رأيتُ فيها الأحذية تضيع من أصحابها وتختلط مع غيرها ويخرج أصحابها حُفاةً أو شبه حُفاةٍ حتى يتعلم الجميع الدرس، وهو «احرص على حذائك أثناء صلاتك».
ولقد أراحنى كثيرًا وجود بعض عمال المساجد حاليًا الذين يأخذون الأحذية فى رفوف بالأرقام ويعطونك رقمًا مثلما هو الأمر بالنسبة للمعطف فى الحفلات العامة.. وكلما مررت أمام مسجد الإمام «الحسين» تذكَّرتُ قصة الحذاء، وقرأتُ الفاتحة لصاحب الضريح، رضى الله عنه.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 229
تاريخ النشر: 6 يونيو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d9%81%d9%82%d8%af%d8%aa%d9%91%d9%8f-%d8%ad%d8%b0%d8%a7%d8%a6%d9%89-%d9%81%d9%89-%d9%85%d8%b3%d8%ac%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86/