قرأت ذات يوم خبرًا يقول: «إن الشرطة البرازيلية تطارد أولاد الشوارع ليلًا فى العاصمة وتطلق الذخيرة الحية لتصطادهم كالجرذان»، وظل الخبر يلح على خاطرى ويثير لدى قدرًا كبيرًا من الدهشة والألم معًا، فهؤلاء الأطفال الأبرياء لم يختاروا طريقة حياتهم ولا أسلوب معيشتهم، لكنها الظروف التى قذفت بهم فى الشوارع بلا وعى أو رعاية كما أن الدولة- أى دولة- قد قصرت فى حماية من نسميهم أولاد الشوارع واكتفت بمشروعات خيرية محدودة الأثر تبدو الدعاية فيها أكبر من الواقع، بدليل أن المشكلة مزمنة بل وتتفاقم عامًا بعد عام، ولقد خيل إلى مؤخرًا أن عدد أطفال الشوارع بالقاهرة قد تراجع وأرجو أن تكون ملاحظتى صحيحة لأن هذا الأمر يجب أن يؤرقنا جميعًا لأن «طفل الشوارع» اليوم هو «بلطجى الأحياء» غدًا، ودعنا نعترف أن السبب الأساسى لذلك الذى نراه هو التفكك الأسرى وشيوع الطلاق وانهيار المؤسسة التعليمية فى العقود الأخيرة، ولقد رأيت فيلمًا وثائقيًا لفتاة مصرية من مجموعات تنام تحت الكبارى وإحداهن تسأل الأخرى: ابن من هذا الذى أنجبتيه؟! فقالت لها: لا أعرف، فالعابرون من رفاقنا غلمان الشوارع يمرون علينا ولا مأوى لهم إلا مثلنا فى هذه الأماكن، فردت عليها زميلتها التى تسألها وقالت: أظنه ابن عصام وليس ابن على، لأن عصام قد زاركِ فى المستشفى بعد الولادة ومعه زجاجة عصير! وكأن تلك الزجاجة هى قربان الزواج ودليل الاعتراف بالأبوة، ولا شك أن مثل هذه القصص تمزق القلوب وتجعلنا نطأطئ الرأس خجلًا أمام أجيال جديدة امتد بها الأسى، بدءًا من زواج القصر الضائعين إلى زنا المحارم المقهورين، ولذلك فإننى أظن أن قاع المجتمع حافل بمشاهد يندى لها الجبين، ولدينا نحن هنا فى مصر أكثر من مصر واحدة، مصر التى أشهد أحيانًا بعض حفلات الزفاف فيها بتكلفة تزيد على عشرين مليونًا من الجنيهات، ومصر التى أسمع منها أيضًا أن أسرًا كثيرة فى الأحياء الفقيرة يبيت أطفالها من غير وجبة العشاء إذا تيسر لهم إفطار أو غداء، وأنا أعترف هنا أن جهودًا كبيرة يجرى بذلها، لكن المشكلة أكبر لأن الفقر قنبلة موقوتة قابلة للانفجار فى أى لحظة كما أن العوز- كما أطلق عليه الرئيس السيسى بحق- هو مصدر للجرائم غير الطبيعية التى نطالعها فى الصحف كل يوم والتصرفات الشاذة التى لم يكن لها مثيل بهذا الحجم المتزايد، فضلًا عن أن مدونة السلوك لم تعد بنفس القدر من السمو والرفعة التى كانت تعرفه عندما كانت الأجيال السابقة ترعى الحرمات وتحترم الأقدميات وتعرف المجاملات، إننا فى عصر كئيب فى المنطقة كلها يلقى بظلاله المتوحشة على كل زوايا الحياة فى بلادنا، ولعلى أطرح هنا ملاحظات ثلاثًا:
أولًا: لقد حان الوقت لكى يتدخل التشريع القاطع لحماية الأسرة والحد من الطلاق وتكثيف برامج التوعية قبل الزواج وإعادة النظر فى القوانين المتصلة بسن الحضانة وإلزام الأب بالإنفاق ما لم يكن لديه مانع صحى يصل به إلى حد العجز، كما أن تعدد الزوجات يحتاج هو الآخر إلى مراجعة أمينة بحيث لا نترك الحبل على الغارب كما هو الحال حاليًا ولنا فى (تونس بورقيبة) قدوة حسنة ونموذج عصرى.
ثانيًا: إن منظومة التعليم ينبغى أن تضع فى اعتبارها أهمية الأسرة وتماسكها وأن تفتح علاقات مستمرة مع الأبوين، وأنا أعلم تعذر ذلك لأسباب تتصل بالتفكك العائلى والفقر المادى والتدهور الأخلاقى ولكن دعنا نحاول فطريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.
ثالثًا: إن المؤسسة الدينية- إسلامية أو مسيحية- تتحمل مسؤولية كبيرة فى الإسهام بالتشريع المعتدل وبإعمال صحيح الدين والنظر إلى مصلحة الأمة وسلامة الأسرة مع حماية الأمومة ورعاية الطفولة، فإن لم يكن الدين هو السياج الواقى ومعه مكارم الأخلاق فمن ذا الذى يصون العناصر الضعيفة فى المجتمع من أم معيلة إلى طفل شريد إلى ابنة ضائعة؟!
أيها السادة.. إنها صيحة صادقة من قلب مصرى يؤمن بأننا نستحق أفضل بكثير مما نحن عليه لذلك يتعين أن نضىء شمعة بدلًا من أن نلعن الظلام، وأن نتوقف عن الندم على اللبن المسكوب، خصوصًا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1444782