يعتمد على الانسجام بين عاملين أساسيين أولهما الأصالة وثانيهما المعاصرة... ونحن أمام تحوّل خطير بمنظومة الأخلاق والقيم
قلنا كثيراً من قبل إن آفة أمتنا العربية هي ذلك النمط من التفكير الماضوي بما يحمله من غربة عن العصر، وحنين إلى الماضي، ورغبة في ترديد الأمجاد، والتحدث الدائم عن أشعار الحماسة ودواوين المدح في تاريخنا العربي الطويل، بينما الدول الأخرى الأصغر عمراً والأمم الأقل تجربة من العرب يتجهون نحو المستقبل في محاولة جادة لاستشرافه واقتحام بواباته في وعي كامل وفهم عميق للعلاقة بين الماضي والمستقبل دون تَزَيّد يدفعنا إلى الهجرة الزمانية، ودون تعصب يجعلنا نرفض كل ما لا نعرفه وننحاز إلى ما وراءنا في التاريخ نلوك أحداثه ونتغنّى ببطولاته على نحو يؤدي إلى حالة انفصام عن الحاضر، بل ويضع الأمة برمتها في غيبوبة ضبابية قد لا تبرأ منها.
إننا نقول ذلك وفي وعينا أن الدنيا تمضي بسرعة حولنا، وأن التقدم التكنولوجي حقق قفزات هائلة انعكست بالضرورة على الثقافة أيضاً، ولم تبرأ منها مؤسسة واحدة في أي بلد من عالمنا المعاصر، وإذا كانت الثقافة هي انعكاس أمين لهوية الأمة وشخصية شعوبها المتباينة فإن ذلك يدفع بالضرورة إلى أهمية تعميق أعمدة تلك الهوية ومقوماتها الأساسية، لأننا نعود لكي نقول إنه لا مستقبل لمن لا ماضي له بشرط التوقف عن التهويل أو التهوين عند فتح ملف الذكريات القومية أو دفتر الأحوال الوطنية.
وإذا كانت الثقافة المعاصرة هي تعبير عن محصلة إنسانية شاملة فإننا نتذكّر الآن أبرز ملامح التحوّل في العلاقات الدولية المعاصرة لكي نكتشف أن العامل الثقافي يلعب دوراً أساسياً فيها، فالعولمة تعبير ثقافي بالدرجة الأولى، لأنها تعني تحرك المجتمعات المدنية للتلاحم والاندماج تحت مظلة العصر دون أن يكون للحواجز والحدود أدوار في إغلاق الأبواب والنوافذ، وتحويل الأمر إلى نظرة ضيقة لا تخلو من تعصب يرتبط بالحدود التي صنعتها أحداث معينة في فترات محددة من التاريخ أو هي نوع من المصادرة على حركة البشر، فالعولمة تعني سيولة الأفكار ورؤوس الأموال والمهارات الحرفية والمهنية بلا موانع.
لكن يبقى القيد الوحيد الذي أدركناه جميعاً، إذ إنه رغم ذلك التوجه الليبرالي الدولي في ظل العولمة فإن القيود على حركة الأفراد تبدو كما هي، بل ازدادت سوءاً وربما كان للعوامل الأمنية أثر في ذلك، فضلاً عن المخاوف الناجمة عن موجات الإرهاب وضرباته التي لم تبرأ منها دولة معاصرة، وعلى ذلك فإن العولمة هي تيار ثقافي لأنها ترتبط بسلوك البشر وطريقة فهمهم الذات وإدراكهم التاريخ.
وإذا انتقلنا من هذه الظاهرة الكونية الحديثة فإننا نرتطم مباشرة بفكرة مناهضة في فلسفتها ودوافعها، وأعني بها تلك التي بشَّر بها في مطلع تسعينيات القرن الماضي (صامويل هنتنجتون) حول صراع الحضارات، وما بشَّر به من خلافات متوقعة بين الحضارات القديمة، وفي داخلها كما جاء كتاب الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون ليتحدث عن الخطر الأخضر بديلاً للخطر الأحمر.
أي أن الغرب اختار الإسلام عدواً جديداً بدلاً من صراعه الطويل مع الكتلة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، وسوف نكتشف أن هذا الفكر المضلل يتناقض تماماً مع فلسفة العولمة رغم أنهما معاً يمثلان نتاجاً عصرياً للفكر الغربي، وقد ظهرتا في الوقت نفسه تقريباً، وهو ما يعني أن الغرب -كالمعتاد- يكيل بمكيالين، ويتصرف بدوافع خاصة تنم عن تغليبه مصالح ذاتية تجعله يقف بشدة في مواجهة حركات الهجرة من الجنوب إلى الشمال، رغم أن ذلك الجنوب المغلوب على أمره هو ذاته الذي استقبل الملايين من الشمال في ظل الظاهرة الاستعمارية وعمليات النزوح التي عرفتها تلك الدول، خصوصاً الأوروبية تحديداً.
كما أننا نضيف أمراً مهماً يمثل رأس المثلث الثقافي إلى جانب زاويتي العولمة وصراع الحضارات، وأعني بذلك الأمر ذلك الشعار السائد الذي يشير إلى الحرب على الإرهاب، وهو شعار له دلالة ثقافية بالدرجة الأولى، ويكفي أن نتصوّر الاختلاف بين التركيبة النفسية والسلوك البشري لكل من جورج دبليو بوش في جانب وأسامة بن لادن في جانب آخر أو ذلك الاختلاف البيِّن بين الرئيس الأميركي ترمب وزعيم تنظيم (داعش) الذي جرى قتله مؤخراً.
وسوف نكتشف أن الفارق الثقافي بين الجانبين هو الذي أدى إلى ما نشهده من صراعات، وما نلمسه من ازدواج واضح في المعايير رغم تسليم الجميع بأن الثقافة هي قاطرة التقدم، وأن التفوق الصناعي يحتاج إلى غطاء ثقافي، ولعلنا نتذكر الآن أن عصر النهضة كان ابناً شرعياً للثورة الصناعية الكبرى في أوروبا في عصورها الوسطى، فالغطاء الثقافي شرطٌ معروفٌ لإمكانية اندماج الشخصية الوطنية في مجتمع أكبر تحوطه التحديات من كل جانب.
لذلك فإن ذوبان الهوية هو نوع من الاندماج مع الآخر، شريطة أن يظل أصحابه على إيمان راسخ بأن هويتهم لا تتعارض مع السمات العالمية التي بدأت تسود في أركان الدنيا الأربعة مبشّرة بفكر إسلامي معتدل وبسيط، وأنا ممن يؤمنون بأن التطرف نوعٌ من الانحراف الذهني الناجم عن هوس أخلاقي أو تعصب أعمى، لذلك فإننا نطالب بأن تكون مقاليد الأمور في يد من يدركون معنى الثقافة، ويرصدون حركة التاريخ في وعي وعمق يمكن بهما أن نجعل للتطور الثقافي مكاناً متميزاً في الحياة العربية يخرج بها من دائرة التكرار الممل والتعلق الزائد بالماضي حتى يتحوَّل دورنا إلى فاعل إيجابي بحيث تقف الثقافة العربية جنباً إلى جنب مع الثقافات الكبرى، خصوصاً أنها تعتمد على واحدة من أكثر لغات العالم ثراءً وتنوعاً وتجدداً، ومن الطبيعي أن نمارس الدور كاملاً، لأنه يتصل بحياتنا ومستقبل أجيالنا القادمة.
إن الثقافة العربية هي نتاج التداخل بين عناصر الزمان والمكان والسكان، وما ينجم عن ذلك من خلطة بشرية تشد الناس إليها وتدفعهم دفعاً إلى إثراء الثقافات الأخرى والتواصل معها، لأن مفهوم الحضارات بطبيعته إيجابي، وبينها قدر كبير من التواصل والتداخل أكثر مما بينها من صدام أو صراعات، والتاريخ يعرف ذلك جيداً.
إن المكون الثقافي الحديث للعرب يعتمد على درجة الانسجام بين عاملين أساسيين أولهما الأصالة، وثانيهما المعاصرة، وإن كنت لا أرى مبرراً للتناقض حول هذه النقطة، لأن البشرية قد تجاوزتها كما أن القطاعات الكبرى من المفكرين والمثقفين في الدول المختلفة تمكنوا من صياغة أدوارهم في الحاضر والمستقبل، وخرجوا من جلباب الماضي وأرديته البالية، ويجب أن ندرك أننا أمام تحوّل خطير في منظومة الأخلاق والقيم وفقاً لما طرأ على ذات المنظومة من تميز واهتمام، ولم يعد هناك مبرر للتباكي على عصر التميز، والسعي إلى تصحيح الصورة المغلوطة مع إدماجها بالمواقع الحيوية من أجل التمكين لثقافتنا الحقيقية كي تسود.
ولا بد أن ندرك أن الثقافة بطبيعتها تجمع ولا تفرق تهز الأعماق بأفكار الثورات التصحيحية، لكنها تتطلع في الوقت ذاته إلى الارتباط القوي بالعناصر الجديدة للثقافة المعاصرة.
إن الثقافة العربية لا تعرف الانغلاق، ولا تؤمن بالغلو والتشدد، لكنها تمضي بين ذلك قواماً، إنها ثقافة امتصت روح العروبة، واستوعبت تعاليم الإسلام، وآمنت بالشراكة مع الجماعات البشرية الأخرى، كما آمنت بأن مفهوم الحضارة يعني بالضرورة التواصل بين الثقافات والاندماج بين عناصرها في توليفة إنسانية يتذوقها البشر في كل مكان، وربما في كل عصر أيضاً، ويجب أن لا ننسى أن الفن رافد أساس في الثقافة العربية لتميزه وعمقه وثرائه حتى يدرك العالم من نحن، ويكون في ذلك نوع من رد الاعتبار لواحدة من أقدم الثقافات وأرقاها وأعني بها الثقافة العربية في ثوبها العصري وردائها الحديث.
جريدة اندبندنت عربية
https://www.independentarabia.com/node/74096/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D9%84%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8