تبلغ الجماعات البشرية سن الرشد مثلما يبلغ الأفراد تلك المرحلة، وهى تعنى قدرة مَن وصلوا إليها على التفكير السديد واتخاذ القرار السليم في كل ما يتصل بحياتهم وعلاقاتهم بالآخرين ومواقفهم من الغير، والواقع أننا عرفنا شعوبًا كثيرة- عبر التاريخ- لم تنضج سياسيًا ولم تصل إلى حالة الرشد الحقيقى، فحكمها مَن لا يستحق وتسلط عليها مَن يعاديها، خصوصًا أننا نؤمن بأن «من أعمالكم سُلِّط عليكم»، وأن الشعوب يحكمها مَن تستحقه، فما رأينا بلدًا ناضجًا يتمتع بالرشد الكامل ويحكمه سفيه، كما لم نرَ دولة سفهاء يحكمها رشيد لأن القيادة هي نبت الشعب وهى نبت الأرض وهى تعبير مباشر عن هوية الأمة، لذلك فإن تصحيح المسار لا يتوقف عند تغيير الحكام ولكنه يمتد ليشمل العقل الجمعى، وإمكانية تفكيك تركيبته البالية وإحلال عقل مستنير ورؤية عصرية محلها، ولا يستقيم ذلك بغير نظام تعليمى عصرى، فالتعليم هو مفتاح العقل وهو ركيزة الحكمة، كما أن المعرفة بمعناها الشامل هي صانعة الرؤية، فبقدر ما يتميز النظام التعليمى يتركز الرشد السياسى والنضج الفكرى، فالتعليم بحق هو قاطرة التقدم وهو المظهر الوحيد من مظاهر التميز، بل التفوق أيضًا، وفى منطقتنا العربية نشهد للأسف ضعفًا يحُول دون الوصول إلى نقطة الرشد في منحنى الحياة الذي يرافق حياة الإنسان لعدة عقود، فلم يكن «مهاتير محمد» ساذجًا عندما بدأ بالتعليم قبل إطلاق قطار التنمية في «ماليزيا» ولم يكن «لى كوان يو» مغاليًا عندما أَوْلَى اهتمامًا شديدًا ببناء الدولة من الداخل في «سنغافورة» وترتيب أوضاعها لعلها تستقيم وتكون قاعدة راسخة تنطلق منها رؤى عصرية في ظل توجه فكرى يجعل للعقل الريادة وللقانون السيادة، فالدولة العصرية لا تتحقق للشعوب إلا في ظل قيادات تمتلك مقومات حقيقية تستند إلى التجربة العريضة والخبرة الطويلة، فضلًا عن حيازة المعرفة ونظافة اليد ووضوح الرؤية وشفافية الذات واستنارة العقل، ولقد افتقدنا في تاريخنا الحديث تلك النماذج المبهرة لحكام ذوى مواصفات مثالية ولكن كلًا منهم قد أعطى بقدر ما أُتيح له من ضوء وما تحقق له من رؤية، فامتلك بعضهم قوة الشخصية وكاريزما الحكم ولكنهم افتقدوا في الوقت ذاته تربية شعوبهم على أسس عصرية تسمح لهم بمواصلة النجاحات التي تحققت والإنجازات التي تمت، فكانت النتيجة أنه في غياب هؤلاء الحكام انهار البناء وتراجع التقدم وأُجهضت التجربة، ولكن تبقى قضية العدالة الاجتماعية هي الأكثر رسوخًا في عقل المواطن المصرى، الذي يؤمن بأن الانحياز إلى الفقراء هو جواز السفر لأى حاكم يريد أن يبقى في ضمير أمته، ولقد ظلت الجماهير المصرية ترفع صور عبدالناصر- برغم نهايته الصعبة- لأن المصريين، مُمثَّلين في الطبقات الأكثر عددًا والأشد فقرًا، قد آمنوا بانحياز الرجل لهم وحرصه عليهم، كما أن السادات لم يَنَلْ ما يستحقه من رد الاعتبار رغم أنه كان رجل دولة من طراز رفيع وصاحب قدرة على استشراف المستقبل وقراءة الملفات المغلقة فيه، ثم جاء الرئيس مبارك وفى ضميره أن يحافظ على ما هو قائم حتى لو امتد الأمر ثلاثين عامًا دون فتح الملفات المسكوت عنها على امتداد خريطة الوطن فكانت النتيجة كما نعرفها، وفى ظنى أن الرئيس الحالى عبدالفتاح السيسى يحكم في أصعب الظروف على الإطلاق، فالضغوط خارجية وداخلية في وقت واحد، كما أن استجابة معظم رجال الأعمال والأغلب الأعم من الإعلاميين، بل السياسيين أيضًا، ليست من رصيده، فهو مقاتل بجنوده وحدهم، وقد يقول البعض إن فلسفة الحكم حاليًا قد دفعت ببعض القوى السياسية إلى الانزواء، وفى ظنى أن ذلك عذر أقبح من ذنب، فمَن يريد أن يساعد الحاكم المخلص يستطيع إذا أراد، ولكن أن يدير الجميع ظهورهم ويبحثوا فقط في ملفاتهم، مع الجرى وراء مصالحهم، فتلك خطيئة تبدو أشد ما تكون بُعدًا عن الرشد السياسى الذي نريده لوطن عظيم مثل وطننا بعراقته وأصالته ومكانته في كل زمان ومكان!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1446855