قام الرئيس «كينيث كاوندا»، رئيس «جمهورية زامبيا»، بزيارة رسمية لـ«جمهورية مصر العربية»، وكان ضيفًا على الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» على مائدة عشاء رسمية فى «قصر القبة»، وقد ألقىالرئيس «مبارك» خطاب ترحيب بالضيف الأفريقى الكبير، وردَّ عليه «كاوندا» بكلمةٍ تحدَّث فيها عن دور «مصر» فى تحرير القارة الأفريقية، وما قام به «عبد الناصر» فى مرحلة تصفية الاستعمار، وكيف أن «كاوندا» كان لاجئًا سياسيًّا فى «القاهرة» يقود حركة تحرير بلاده حتى نالت استقلالها.
وعندما انتهى من كلمته نظر إلى عشرات الضيوف يتقدمهم الرئيس المصرى، وقال: «عفوًا، فقد أقوم بتصرُّف غير مألوفٍ لديكم»، وكان من عادته أن يحمل منديلاً طويلاً -مثلما كانت تفعل «أم كلثوم» - فرفعالمنديل عاليًا، وبدأ فى وصلة رقص أفريقى، وأعضاء وفد بلاده يشاركونه الحماس والانفعال وسط دهشة الحاضرين من الجانب المصرى الذين لم يتعوَّدوا على أن يرقص رئيس زائر فى مأدبة عشاء رسمية.
وقد غاب عن وعى الحاضرين أن الرقص ثقافة أفريقية متميزة يُمارسها الجميع، بدءًا من رئيس الدولة، وصولاً إلى أصغر مواطن، وبعدما فرغ الرئيس الزامبى من رقصته الرشيقة جلس على المقعد الرسمى على مائدة الطعام، وبدأ يتصرف بهدوء الرئيس، ووقار الضيف. والواقع أن الاختلافات الثقافية مسألة يجب أن تكون فى الحسبان دائمًا، فما نراه مقبولاً لدينا قد يكون مرفوضًا لدى أبنائنا أو أحفادنا؛ فالسلوكالإنسانى نتاج ثقافة متأصِّلة تدفع من يحملها إلى التصرُّف وفقًا لها، كما أن لكل دولة رقصتها المتميزة، وأغانيها المعروفة، ولباسها القومى، وتلك فى مجملها -مع غيرها من العناصر والعوامل- تشكِّل هُويَّة الشعوب وشخصية الأمم.
غاب عن وعى الحاضرين أن الرقص ثقافة أفريقية متميزة يُمارسها الجميع، بدءًا من رئيس الدولة، وصولاً إلى أصغر مواطن
ونحن نعيب على أنفسنا فى «مصر» أنه لا يوجد لدينا زى خاص، ولا ملبس يمثِّل رداءً وطنيًّا، ومازلت أتذكر عندما كنا نُدعى للحفلات الرسمية الكبرى فى الخارج فى حضور ملوك ورؤساء الدول أنهم كانوا يُخيِّروننا بين بدلة التشريفات الرسمية والزى الوطنى لبلادنا، وكان الأمر فى إطار المجموعة العربية مريحًا لأشقائنا فى «الخليج» وفى «المغرب العربى»، حيث توجد لديهم أردية متميزة لا تجعلهم يحتاجون إلىحُلَّة التشريفات الأفرنجية.
وأتذكَّر عندما كنت طالبًا فى السنة النهائية بـ«جامعة القاهرة» أن حضرت حفل منح الرئيس الراحل «الحبيب بورقيبة» الدكتوراه الفخرية، وبينما نحن وسط إجراءات الحفل المهيب وقفت مجموعة من «التوانسة» يغنون النشيد الوطنى لبلادهم بشكل يثير الحماس ويدعو إلى الإعجاب، وعندما ذهب «بورقيبة» إلى «أريحا» فى زيارته الشهيرة وأدلى بتصريحاته الجريئة حول نظريته «التدريجية» فى حل الصراع العربى-الإسرائيلى بمنطق «خُذ وطالب» قامت عليه قيامة أجهزة الإعلام المصرية، وتوتَّرت العلاقات بين «مصر» و«تونس»، ولكن أثبتت الأيام فيما بعد أنه لم يكن كل ما قاله «بورقيبة» خطأً، كما أن الجميع يعترف بأياديه البيضاء على المجتمع المدنى التونسى وحقوق المرأة والتشريعات المنظمة للعلاقات بين المواطنين فى بلده الراقى.
وهذه مناسبة لكى نشير فيها إلى أهمية دراسة الفوارق بين الثقافات لكى نتأكد أن لكل دولة أبعادًا وأعماقًا قد لا تكون متاحة لغيرها، ولذلك فإن سلوك أبنائها فى الخارج يعكس النظرة الحقيقية لها ودرجة ارتباط الآخرين بها.
ومازلتُ أتذكر عندما تسلَّمت عملى فى القنصلية المصرية بـ«لندن» عام 1971، أن رئيس الوزراء -زعيم المحافظين- «إدوارد هيث»، كان يقود الأوركسترا السيمفونية لبلاده فى الحفلات الرسمية والعامة؛ إذ إن تحرُّر الإنسان من القيود التى تُكبِّله والتصرُّف طبيعيًّا يجعلان منه صورةً مُشرقةً لبلاده فى كل الأحوال، وحتى الدول العربية المحافظة مثل «المملكة العربية السعودية» لها رقصتها الخليجية المعروفةبالسيوف (العارضة)، والتى أدَّاها ببراعة منذ أسابيع قليلة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» أثناء زيارته الرسمية.
تحيةً لـ«الفلكلور» الشعبى، وتقديرًا للإنسان الطبيعى الذى يتصرَّف بلا عُقَدٍ، ودون هواجس، ويُعبِّر عن هُويَّته الوطنية وثقافته الذاتية مادام ذلك كله يتم فى إطار من احترام الذات وتوقير الآخر؛ بل ويفتح أبوابًا للصداقة الحقيقية، والمعرفة الحرة، والثقافة الواسعة!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 230
تاريخ النشر: 13 يونيو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%b1%d9%82%d8%b5-%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d8%b2%d8%a7%d9%85%d8%a8%d9%8a%d8%a7-%d9%81%d9%89-%d9%82%d8%b5%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a8%d8%a9/