هو عنوان كتاب مهم للمفكر والأديب المغربي د.«بنسالم حميش» وزير الثقافة المغربي الأسبق وصاحب الروايات الشهيرة والكتب القيمة التى حصدت عددًا كبيرًا من الجوائز الدولية والعربية، وقد أصدر كتابه الذي يحمل هذا العنوان في «القاهرة» عن «الدار المصرية اللبنانية» وقد كتب المؤلف في تقديم كتابه متسائلًا.. ما الخيط الناظم بين عينة أعلام كبار (أبو حنيفة ، التوحيدي، ابن بطوطة ، ابن رشد ، ابن خلدون ) تجمعهم أواصر اللغة العربية كلغة فكر وثقافة وتعبير وتفرقهم – فضلًا عن أزمتهم – مرافق اهتماماتهم (الفقه، الأدب الفلسفي، الرحلة، الفلسفة المفسرة المؤولة ، التاريخ المنظر) مع أن ثلاثة منهم مارسوا أيضًا خطة القضاء المالكي ؟ وهنا نشير إلى شيوع مذهب «ابن مالك» في الشمال الإفريقي المسلم، ويستطرد الكاتب قائلًا: إننا مع الثقافة في تاريخ الإسلام ( أو الإسلام الثقافي ) نكون إجمالًا في أجواء وسياقات ذات طبائع ووظائف مغايرة للإسلام السياسي إذ يغلب عليها التوجه النقدي وإعمال الفكر المعمق النير وتوخي الإبداع الرافع المطور، بعيدًا عن بداوة الفكر ذهنيةً وحساسيةً وإدراكًا وذلك ما نطمح إلى تبيانه مع الاستعانة بنصوص نترجمها لبعض الفلاسفة الأوروبيين الكبار من مستوى «كانت» و»هيجل» و»نيتشه» إضافة الى دارسين وقفوا عند الإسلام الثقافي ليس من باب الإعجاب والتنوية حصريًا وإنما أساسًا بالتحليل وحسن الإدراك وروح الإنصاف، وقد لاحظت شخصيًا أن المؤلف القدير ينتمي إلى المدرسة المغاربية للمفكرين المسلمين في الشمال الإفريقي ولاعجب فهو امتداد لأسماء كبيرة لباحثين عرب وأجانب كتبوا عن الاستشراق والاستغراب وعن العلاقة بين الإسلام والغرب ولعلنا نتذكر مع المؤلف أسماء «برنارد لويس»، «مكسيم رودنسون»، «صامويل هنتنجتون»، «محمد أركون»، «إدوارد سعيد» وغيرهم ، لقد تمكن المؤلف في عمق وبراعة من التفرقة بين الإسلام السياسي الذي يجري فيه اختزال الإسلام كله ( ثقافة وحضارة ) من جانب أجهزة الإعلام والمراكز الدولية النشطة متجاهلين أهمية وقيمة الإسلام الثقافي صاحب الإسهامات الضخمة في الحضارات المعاصرة إذ يغلب عليه التوجه النقدي وإعمال الفكر وتوخي الإبداع فلدينا سلسلة طويلة من الفلاسفة والمفكرين والعلماء المسلمين يمثلون في مجموعهم (العقد الفريد) في تاريخ تلك الحضارة التي قدمت للإنسانية خدمات جليلة وإضافات رائدة، ولابد أن نعترف هنا بأن الإسلام السياسي هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الهجمات التي تعرض لها ذلك الدين الحنيف، وقد استعرض المفكر الكبير صاحب الكتاب مواقف بعض الفلاسفة الغربيين بدءًا من «نيتشه» الذي كان معروفًا بإلحاده وانتقاده الشديد للمسيحية إلا أن مواقفه الإيجابية من الإسلام وثقافته لازالت مطمورة ويجري التعتيم عليها عمدًا، ولقد كتب ذلك الفيلسوف الألماني بوضوح قائلًا (لقد حرمتنا المسيحية من حصاد الثقافة القديمة وبعد ذلك حرمتنا من حصاد الثقافة الإسلامية، إن حضارة أسبانيا العربية هي القريبة منا حقًا المتحدثة إلى حواسنا أكثر من «روما» و»اليونان»، لقد كانت تلك الحضارة عرضة لدوس الاقدام!) ثم ينتقل المؤلف إلى فيلسوف ومفكر آخر هو «هيجل» الذي كتب حول مكانة الإسلام وأطلق عليه اسم الديانة المحمدية وهو يتعرض لظهور الإسلام في الجزيرة العربية بصحاريها الواسعة وحياتها البسيطة ويمس حادث الهجرة من مكة كبداية للفتوحات التي مضى بها العرب شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، ولا يتوقف المؤلف المغربي رفيع القدر عند ذلك بل يمضي بين الفلاسفة المسلمين ليستكمل الصورة ويعطي «ابن خلدون» مكانته في الفهم العميق للفلسفة الإسلامية و»نظرية العمران» التي جعلت منه اسما مدويًا لا في تاريخ علم الاجتماع الإسلامي وحده ولكن في مدارس علم الاجتماع كلها شرقية وغربية بلا استثناء ثم يشير المؤلف إلى التحول في شخصية «ابن خلدون» عندما وصل إلى ميناء الإسكندرية ونزل برًا إلى القاهرة عام 1386 ميلادية وجلس للتدريس في الجامع الأزهر الذي فتح ذراعيه عبر التاريخ لعلماء المسلمين حتى في عصور الانحطاط السياسي بما فيها بعض فترات الحكم المملوكي.
إن لنا ملاحظات إيجابية على هذا الكتاب الذي يفتح آفاقًا واسعة للتفكير والتدبر خارج الإطارين السياسي والروحي لذلك الدين الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بالتركيز على واحد من أكثر جوانب الإسلام ثراءً وتأثيرًا وأعني به الإسلام الثقافي، ولابد أن أسجل هنا أن الدكتور «بنسالم حميش» قد فتح الباب أمام التفكير الرائد في الجوهر المعرفي للإسلام الحنيف، وإذا كان الكتاب حافًلا بالألفاظ العربية الشائعة في الكتابات المغاربية والتي تبدو أحيانًا مهجورة في لغة عرب المشرق إلا أننا تمكنا من إدراك فهم المؤلف لموضوعه وقدرته على توظيف الألفاظ والمصطلحات على نحو غير مسبوق، إنني أحيي المؤلف المبدع الذي ينضم إلى قافلة مفكري المغرب العربي الذين أضافوا للمكتبة العربية ما لم يكن متاحًا لها من قبل وأثمن قدرته في استخدام أدوات البحث العلمي الجاد وموضوعيته الواضحة وحياده الأكاديمي الذي يجعل من هذا الكتاب فتحًا جديدًا في موضوعه الفريد.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47398
تاريخ النشر: 13 سبتمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/550735.aspx