تسلَّمتُ عملى بالقنصلية المصرية العامة فى «لندن» فى سبتمبر 1971 بعد خمس سنوات أمضيتها فى الديوان العام لوزارة الخارجية قبل الإيفاد إلى الخارج؛ نظرًا لظروف «النكسة» وتداعياتها.
وعندما بدأتُ عملى نائبًا للقنصل اكتشفتُ أننى أمام مسرحٍ كاملٍ للحياة المصرية، بل والبريطانية أيضًا، أرى من منظوره ما يدور من علاقات بين الشعبين من تبادل فى الزيارات تحت مظلة السياحة، حيث كنت أوقِّع يوميًّا ما يزيد على مائة تأشيرة لدخول «مصر».
وقد حمل البريد الوارد من الوزارة إلى القنصلية فى «لندن» مكتوبًا عاجلاً يُحذِّر من دخول بعض اليهود حَمَلة الجنسية الإسرائيلية إلى «مصر» بتأشيرات سليمة؛ لأنهم مزدوجو الجنسية؛ إذ يحملون إلى جانب جنسيتهم الإسرائيلية جنسيات أخرى أوروبية أو أمريكية، ورأيت -بخبرة ابن السادسة والعشرين- أن أصمِّم استمارة جديدة للمتقدمين للحصول على تأشيرة دخول «مصر»، وأضفت فيها بندًا للسؤال عن الديانة، وما إن طرحناها فى مدخل الاستقبال بالقنصلية حتى قامت الدنيا ولم تقعد، فقد تلقَّيتُ اتصالاً هاتفيًّا من السفير يُبدى دهشته مما فعلنا، ويبلغنا بأن الخارجية البريطانية طلبت سحب هذه الاستمارات فورًا حتى لا تضطر إلى اتخاذ إجراء بسحب الحصانة الدبلوماسية من القنصلية المصرية.
ثم جاءنا خطاب شديد اللهجة من الوزارة البريطانية للتحذير من السؤال عن الديانة؛ لأنها أمر شخصى لا يصلح لأن يكون معيارًا للتفرقة بين البشر، ومنذ ذلك اليوم تعلمت درسًا لم يغب عنِّى أبدًا، حتى إننى تحمَّستُ لإلغاء خانة الديانة، خصوصًا فى البطاقات الشخصية والأرقام القومية، وإذا سألت أجنبيًّا عن ديانته فإنه يستهجن السؤال، وهو يعتبره مسألةً شخصيةً لا محل للسؤال عنها.
بعد يومين فقط نشرت الصحافة اليهودية فى «إسرائيل» وخارجها خبرًا مُثيرًا عن ذلك اللقاء العابر، وكان عنوان «الجويش كرونيكل» هو «دبلوماسى مصرى يُمهِّد للحوار بين الطلاب المصريين والطلاب الإسرائيليين الدارسين فى بريطانيا»
وأتذكر الآن، أنه بعد ذلك بأسابيع قليلة جاء إلى القنصلية شابان بريطانيان يطلبان مقابلة القنصل، وعندما سمحت لهما بالدخول طلبا منِّى المساعدة فى إقامة حوار مع اتحاد الطلاب المصريين فى «بريطانيا»، فقلت لهما: إن ذلك ليس من الشئون القنصلية، ولكنه من شئون مكتب البعثات المصرى المختص بشئون الدارسين والدارسات فى «المملكة المتحدة»، وأخرجت ورقة صغيرة كتبتُ عليها عنوان المكتب الثقافى المصرى المختص بشئون المبعوثين والكائن بـالمبنى التاريخى رقم 4 شسترفيلد جاردنز فى حى «الماى فير» وسط أرقى مناطق العاصمة البريطانية.
وانصرف الشابان، ونسيت الأمر برُمَّته، وبعد يومين فقط نشرت الصحافة اليهودية فى «إسرائيل» وخارجها خبرًا مُثيرًا عن ذلك اللقاء العابر، وكان عنوان «الجويش كرونيكل» هو «دبلوماسى مصرى يُمهِّد للحوار بين الطلاب المصريين والطلاب الإسرائيليين الدارسين فى بريطانيا»، ويتحدث الخبر عن أن القنصل المصرى فى «لندن» (مصطفى الفقى) قد أعطى رئيس اتحاد الطلاب الإسرائيليين فى بريطانيا ونائبه عنوان المكتب التعليمى تمهيدًا لبدء الحوار بين الطلاب المصريين والإسرائيليين لأول مرة فى التاريخ، وهو ما يمثل خطوةً كُبرى فى العلاقات بين الشعبين المصرى والإسرائيلى.
وأُسقط فى يدى، وكان الخبر مفاجأةً صاعقةً لى؛ إذ لم أكتشف ما يوحى بأنهما إسرائيليان، بل تصوَّرت أنهما يمثلان تجمعًا طلابيًّا من إحدى الجامعات البريطانية، وأعطيتهما عنوان المكتب الثقافى فى براءةٍ لا تخلو من سذاجةٍ وبعفويةٍ وحُسن نيةٍ كاملين، وتلقَّى السفير فى اليوم التالى برقيةً عاجلةً من الأجهزة الأمنية المصرية تسأل عمَّا حدث وتطلب تفسيرًا له، فردَّت السفارة بما لزم، ولولا أننى كنت معروفًا نسبيًّا لدى البعض فى «القاهرة» لكان فى الأمر ما لا تُحمد عقباه، وقد تعلَّمتُ من هذه الحادثة ضرورة الحذر الشديد إعمالاً للمثل المصرى الحكيم «من تلسعه الشوربة ينفخ فى الزبادى»، وقد زرع ذلك الحادث المُبكِّر فى بداية حياتى الوظيفية شعورًا بالحذر وضرورة التعرُّف الكامل على كل خطوة قبل الإقدام عليها، وأدركت أن النوايا ليست خالصةً فى معظم الأحوال، وأن العمل الدبلوماسى والتواصل مع الأجانب يحتاجان إلى خبرةٍ وحنكةٍ قد لا يتوفران فى سن الشباب رغم الدورات الأمنية التى كنا نحصل عليها قبل تولى مواقعنا فى سفاراتنا فى الخارج.
ولقد حكيت من قبل عن ذلك المواطن البريطانى الذي صدم سيارته بسيارتى المتوقفة أمام منزلى ليكون ذلك سببًا للتعارف وفتح قناة اتصال شعرت بها من البداية وأغلقت الباب وأجهضت المحاولة من بدايتها، إذ وعيت الدرس مبكرًا، وإن كنت أطلب من شباب الدبلوماسيين -فى الوقت ذاته- عدم الاستسلام للمخاوف والأوهام والانطلاق فى عملهم بذكاء ووعى يُعفيهم من الوقوع فريسة لتحقيق أهداف الغير!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 231
تاريخ النشر: 16 يونيو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%ae%d8%a8%d8%b1-%d8%ba%d8%b1%d9%8a%d8%a8-%d9%86%d8%b4%d8%b1%d8%aa%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%ad%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%b9%d8%a7%d9%85-1971/