فى مثل هذه الأيام من عام 1952 وبعد شهر ونصف الشهر فقط من قيام ثورة يوليو كانت هناك واحدة من أخطر قرارات الثورة على الإطلاق ففى التاسع من سبتمبر من ذلك العام صدر قانون الإصلاح الزراعى الذى سعى لتحديد الملكية الزراعية لمائتى فدان للفرد، وهو أمر جرت عليه بعد ذلك تعديلات إلى ما هو أقل مساحة مع توزيع الأراضى على الفلاحين الأجراء الذين يعملون فى تلك الأرض رافعين شعار (الأرض لمن يزرعها)، ومازلت أتذكر أننى كنت طفلًا صغيرًا عندما جاء إلى قريتنا (كوم النصر) بمركز المحمودية مديرية البحيرة فى عيد الثورة عام 1954 الوزيران عبد الرزاق صدقى وزير الزراعة وأحمد حسن الباقورى وزير الأوقاف ليقوما بتوزيع أرض المغازى باشا على الفلاحين، ويومها قال الباقورى أمام سراى الباشا (إن المغازى لم يكن إقطاعيًا بمعنى كلمة إقطاع ولكنه رجل عصامى كوَّن نفسه بنفسه) وقد كان ذلك صحيحًا فالرجل اشترى آلاف الأفدنة واستصلحها على مر السنين وكان رصيده الأول قادمًا من تجارة القطن وأنا أعرف ذلك جيدًا بحكم قرابتى المباشرة له ولكن هدف الثورة كان سياسيًا بالدرجة الأولى فى محاولة عاجلة لتصفية الإقطاع وتقديم مثال قوى للمضمون الاجتماعى لثورة 1952، ولقد كان قانون الإصلاح الزراعى يعنى بالنسبة للثوار تصفية ما سموه (مجتمع النصف فى المائة) خصوصًا أن صدور هذ القانون قد تبعته إجراءات أخرى تمضى فى نفس السياق منها قانون (إلغاء الألقاب) وقانون (إلغاء الأحزاب السياسية) فقد كان الاستهداف مباشرًا لتصفية نفوذ باشوات مصر وتغيير شكل المجتمع تغييرًا جذريًا بغض النظر عن آثار ذلك على الجوانب الاقتصادية والثقافية بل ومسار الحياة السياسية كلها فى البلاد، فالمصريون بعد 23 يوليو 1952 اختلفوا كثيرًا عما كانوا عليه قبل ذلك، ولقد كانت ضربة الإصلاح الزراعى موجهة بالدرجة الأولى إلى الإقطاع السياسى بكل مقوماته ومظاهره، وقد تحدث كثير من خبراء الزراعة عن الآثار السلبية الأخرى لذلك القانون والتى يأتى فى مقدمتها تفتيت الملكية الزراعية والعجز عن التعامل مع إنتاجية الأرض بالوسائل الحديثة بل إن بعضهم يعتبر أن مشكلة الغذاء فى مصر قد ارتبطت بما جرى من عبث بالأراضى الزراعية مما نتج عنه انخفاض غلة الفدان، ومازلت أتذكر أن محمد المغازى ابن الباشا الكبير عندما عاد من أول زيارة له إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1950 وكان عضوًا فى مجلس النواب المصرى أنه قام برش دودة القطن بالتعفير الجوى من خلال طائرات صغيرة بما يعنى أن الملاك الكبار للأطيان كانوا قادرين على استخدام أحدث الوسائل فى تكنولوجيا الزراعة ومقاومة الآفات ورفع عائد الفدان وهو أمر لم يعد متاحًا للملاك الجدد من الفلاحين البسطاء فى مساحاتهم الصغيرة، وإذا كنا نعتبر التاسع من سبتمبر من كل عام هو عيد الفلاح المصرى فإن ذلك يأتى لتأكيد المضمون السياسى والاجتماعى لقانون الإصلاح الزراعى بما له وما عليه، ولعله من الواجب أن نسجل الملاحظات التالية:
أولًا: إن الإقطاع المصرى لم يكن وجهًا مقابلا للإقطاع فى أوروبا خلال العصور الوسطى حيث كانت سطوة المالك هناك على اتباعه تفوق الحدود حتى بلغت حق الليلة الأولى للإقطاعى على زوجات اجرائه ممن يعيشون تحت سيطرته الكاملة! فالإقطاع الأوروبى كان نموذجًا قاسيًا يصل إلى حد الإجرام، أما فى مصر فقد كان ميراثًا عائليًا لتفاتيش الخاصة الملكية والعائلات التى تدور حول الباشا، وقد كنا فى قرى المغازى باشا نجاور أيضًا أراضى الأمير عمر طوسون وغيره من أمراء وباشوات ذلك الزمان وكان منهم عصاميون حازوا ممتلكاتهم بجهدهم بينما آلت الملكية للبعض الآخر من (الشفالك) و(الأبعديات) التى منحها لهم محمد على وحكام مصر من أسرته.
ثانيًا: إن قانون الإصلاح الزراعى وتحديد الملكية لم يكن وليد ثورة يوليو المصرية بل سبقته إرهاصات فى نهاية أربعينيات القرن الماضى حيث نادت به شخصيات من أمثال محمد خطاب وإبراهيم شكرى ومريت غالى بل إن بعض المصادر أشارت إلى أن السفير الأمريكى فى القاهرة كان يتحدث لأصدقائه من المصريين قبيل ثورة يوليو عن أهمية صدور قانون لتحديد الملكية الزراعية كجزء من منظومة الإصلاح المنتظر، بينما كان يقابل ذلك على الجانب الآخر اتجاه يرى أن فرض الضرائب التصاعدية على ملاك الأراضى الزراعية سوف يحقق نتائج أفضل لأنه يتحاشى تفتيت الملكية ويحول دون النتائج السلبية لتجزئة المساحات الزراعية. ثالثًا: لم تكن ضربة الإصلاح الزراعى الأولى قادرة على الإجهاز الكامل على العائلات المالكة وأعيان الريف فكان تحديد الملكية الثانى عام 1961 ثم تشكيل لجنة تصفية الأقطاع بعد ذلك برئاسة المشير عبد الحكيم عامر النائب الأول لرئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة وجرت واقعة (كمشيش) الشهيرة فى محافظة المنوفية حيث جرى التنكيل بعائلة الفقى بعد مصرع الشاب الثورى اليسارى صلاح حسين والذى رحلت عن عالمنا زوجته المناضلة شاهنده مقلد منذ فترة وجيزة، وقد مارست لجنة تصفية الإقطاع دورًا مؤثرًا فى تغيير شكل الحياة فى القرية بل والمجتمع كله وكانت إيذانًا بتحولات واضحة فى الشخصية المصرية التى بدأ تكوينها من الريف دائمًا. هذه خواطر تحتاج إلى بلورة وتحليل بل ودراسة وتأمل حول واحد من أخطر قرارات يوليو بعد صدوره بأربعة وستين عامًا لكى نكتشف بموضوعية ما له وماعليه! وتأثير ذلك على القطاع الزراعى فى الاقتصاد المصرى الذى لم يتعاف حتى الآن!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47405
تاريخ النشر: 20 سبتمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/551837.aspx