إن تاريخ الحركات الصوفية فى إطار الحضارة الإسلامية تاريخ حافل بالومضات المضيئة نقف فيها أمام محطات مهمة لعل أبرزها إسهامًا (جلال الدين الرومي)، والصوفية ليست بدعة ولكنها استغراق فى التدين الصحيح والمضى فى رحلة العشق الإلهى إلى حيث يمكن الوصول إلى مرحلة الطرح الصوفى الكبير الذى يضع صاحبه فى مكانة رفيعة يختلط فيها التعبد بالزهد وتمتزج فيها بساطة الدين وروعته بطقوس روحية لا تتعارض مع الأصول الثابتة للعقيدة ولا الشريعة، كما أنها تخرج من عباءة الجدل الفقهى لتصل إلى حالة من التوحد مع الذات الصافية والمضى فى ذكر الله بطرق مختلفة فيها إيقاع حى يربط المخلوق بالخالق، بينما التطرف هو نمط بائس ويائس من الهجرة الزمانية إلى كتابات بعض فقهاء القرن الثالث الهجرى فى محاولة لتطويع النصوص فى خدمة أهداف لا تمت لصحيح الدين من قريب أو من بعيد وهى تأتى نتيجة جرعات من الشعور بالعزلة وتكفير الآخر ورفض حياة العصر، إن التطرف داء لعين إذا أصاب شخصًا هوى به إلى الحضيض، وإذا أصاب جماعة أخرجها من زمرة المسلمين، إن التطرف امتداد طبيعى للتعصب والغلو والتشدد فى غير موضعه، ولأن المتطرف يسعى إلى تغيير طبيعة المجتمع ونظام الدولة وإيجاد نمط يريده هو ويتعايش معه دون غيره لذلك ظهر ( الإسلام السياسى ) لكى يكون ابنًا شرعيًا للتطرف والمغالاة ومحاولة توظيف الدين لخدمة أغراض دنيوية ومصالح سياسية.. والآن دعنا نخوض فى أعماق المقارنة بين التصوف والتطرف:
أولًا: لعل أبرز ما يميز تاريخ الصوفية عن غيرها من الجماعات الإسلامية هى أنها لا تسعى نحو ركوب موجة الإسلام السياسى فهى تتوازى أحيانًا مع الرهبنة المسيحية برغم الاختلافات الكبيرة بينهما ولكن نزعة الزهد والانصراف عن طيبات الحياة تجعل للصوفية شأنًا خاصًا فى التاريخ الإسلامى كله، وهى جماعات كثيرة العدد، قوية التأثير، ولكنها لا تميل إلى استعراض عضلاتها لأنها وجدان روحى وليست قوة سياسية لذلك كان أقطاب الصوفية دائمًا محل احترام عن بعد لا يحملون عداوة، ولا يبشرون بأيديولوجية معينة، ولا يتدخلون فى حياة الناس، فالفارق بين الصوفية والسلفية كبير وواضح، فالصوفية علاقة بين الإنسان وخالقه أما السلفية فهى اشتباك مع المجتمع بالقبول أو الرفض.
ثانيًا: إن الصوفية تمثل جيشًا سلميًا لخدمة الإسلام وليست جماعة مغلقة بالمنطق (الماسوني) للكلمة، إنها روح متجددة وحب للآخر واحترام لخيارات الغير لذلك عاشت عبر القرون دون صدام يذكر مع السلطات الحاكمة رغم أن بعضها كان ظالمًا يجور أحيانًا على رجال الزهد وأصحاب النظرة الشفافة تجاه الحياة والناس، ولقد اتسم الطابع الصوفى دائمًا بقبول التعايش المشترك مع أصحاب الديانات الأخرى فضلًا عن نزعة متأصلة تدعو إلى احترام خيارات الغير، وإذا كانت الصوفية قد ارتبطت بالأعلام الخضراء والإيقاع الموسيقى الراقى فإنها قد عرفت أيضًا التعددية والتشعب بين طرق صوفية مختلفة ومدارس متعددة فى ذكر الله قد تختلف فى الأسلوب ولكنها تتوحد أمام الغاية وهى الاندماج فى ذاته والانصياع لجلاله وعزته.
ثالثًا: لا بد أن يتذكر علماء الفلسفة الإسلامية أن الحركات الصوفية كانت مكونًا رصينًا فى تاريخ الفلسفة عمومًا باعتبارها أم العلوم وفى الفلسفة الإسلامية خصوصًا لما تميزت به من تأثير عميق فى اتجاهاتها المختلفة ومدارسها المتعددة، فالصوفية فلسفة قبل أن تكون عقيدة أو مذهبًا، إنها سلوك إنسانى يصل بالفرد إلى حالة من السمو الأخلاقى والارتفاع عن المباذل والرذائل والخصومات.
رابعًا: إن الأزهر الشريف كان ولا يزال قلعة إسلامية صافية احتضنت مدارس التصوف وتفاعلت معها وسعت إلى نقائها، بل إن اثنين يحملان لقب الإمام الأكبر فى العقود الأخيرة ينتميان إلى مدارس صوفية متقاربة، ونحن نتذكر الآن شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود وهو قطب صوفى بارز عرفناه بمواقفه المستقلة ورفضه الانصياع لضغوط السلطة، كذلك فإن الإمام الأكبر حاليًا وهو الدكتور أحمد الطيب ينتمى إلى بيت صوفى عريق خرج من مدينة الآثار الفرعونية (الأقصر) ليثبت نظرية الجوار الآمن بين الحضارات والثقافات وهو أستاذ فى الفلسفة الإسلامية عاش فترة فى مدينة النور (باريس) مثلما فعل سلفه الإمام الصوفى الراحل الدكتور عبد الحليم محمود.
خامسًا: إن الصوفية سلاح إسلامى معتدل نرفعه فى وجه محاولات الغلو والتطرف المشوبة بالعناد الذى يستند إلى الجهل ويعتمد على الخرافة ولا يدرك الدلالة الحقيقية لصحيح الدين، ولدينا فى مصر مشيخة للطرق الصوفية يتناوب عليها رجال ثقاة يعرفون قدر المنصب وأهمية الدعوة مع إدراك الفلسفة الحقيقية للحركة الصوفية.
إننى أريد أن أقول بوضوح وبشكل مباشر إن تشجيع بعض الطرق الصوفية والفلسفات الوسطية يمكن أن يؤدى إلى انتزاع فتيل الإرهاب وإنهاء فيروس العنف تحت مظلة الإسلام الصحيح الخالى من الشوائب والمتجه نحو الوسطية والاعتدال والذى يتواصل مع أهل الكتاب ويحترم الذين يختلفون معه فى الرأي، فالداعية الصوفى الصالح يمكن أن يكون نموذجًا حيًا للإسلام النقى والصافى خصوصًا فى ظل الحصار المضروب حولنا حاليًا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47433
تاريخ النشر: 18 أكتوبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/556441.aspx