قضيت أيامًا فى العاصمة اليونانية (أثينا) ولم يبرح ذهنى لحظة واحدة أن ذلك البلد الأوروبى يواجه أزمة اقتصادية طاحنة تبدو قابلة للمقارنة مع مصر التى تواجه هى الأخرى أزمة اقتصادية مع اختلافات فى النوعية والكيفية والحجم، إذ أن عدد سكان اليونان يزيد قليلًا على عشر سكان مصر كما أن اليونان دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى كذلك فإنها لا تستورد غذاءها من الخارج بنفس النسبة التى تمضى عليها مصر، وخلال مناقشات طويلة فى ذلك البلد الذى يحمل شعبه مشاعر طيبة للغاية تجاه الشعب المصرى عرفت أن الاتحاد الأوروبى قد ضخ مائتى مليار يورو وفى قول آخر أنه زاد عليها مائة وخمسين مليارًا أخري، وتذكرت أن بلادى تفاوض صندوق النقد الدولى فى مليارات لا تزيد على أصابع اليدين وقلت فى نفسى كان الله فى عون المصريين ومن يحكم ذلك البلد فى ظروف صعبة ومعقدة، ونظرت على الجانب الآخر لأرى الدولة التركية عضو حلف الأطلنطى التى استثمر فيها ذلك الحلف لأسباب استراتيجية وعسكرية مطارات وموانى وقاطرات جعلت تركيا الحديثة تقف على قدميها وتطرق بقوة باب الاتحاد الأوروبى رغم الخلافات الثقافية التى تحول دون ذلك، وقلت مرة أخرى كان الله فى عون مصر والمصريين ومن يحكم البلاد فى ظروف غير مسبوقة، ولكننى تداركت أيضًا - تحت تأثير محاولة جلد الذات - أن المصرى قد توقف فترات طويلة عن الإنتاج وأهمل الخدمات وعاشت فيه عقودًا فئات مدللة تعيش فى بيئة فاسدة بصورة أدت إلى ضرب العدالة الاجتماعية وإلى العبث بموارد البلاد وفى مقدمتها عنصر الأرض وهى أهم عناصر الإنتاج، وقلت لنفسى إننا فى مصر نشبه من كان ينفق على ما يأكل ويشرب ويلبس ويعيش به على (النوتة) أملًا فى الدفع الآجل ذات يوم، ثم جاءت ثورتا 25 يناير و30 يونيو على نحو أدى إلى كشف المستور وتعرية الأوضاع الاقتصادية بجناحيها التنموى والخدمي، كما أن مصر تواجه ظرفًا صعبًا للغاية ربما لم يواجهه غيرها فى عالمنا المعاصر فهى تحارب الإرهاب فى سيناء بل وفى ربوع الوطن كله، كما أنها تقاتل فى الوقت ذاته من أجل البناء والتنمية والخروج بالاقتصاد المصرى من ظروفه الصعبة مع المحافظة فى الوقت ذاته على أعمدة الدولة المصرية والكيانات السيادية القائمة، أقول ذلك بعد طواف بالمتحف الكبير والجديد فى العاصمة أثينا وسط ساحة (الأكروبول) حيث نقلت الحضارة الإغريقية عن الحضارة الفرعونية الملهمة مظاهر الإبداع وعناصر التألق حتى شهدت مصر تزاوجًا بين الحضارتين منذ أن وصل الإسكندر الأكبر إلى (معبد آمون) فى سيوه حتى نهاية حكم البطالمة وانتهاء الحقبة الإغريقية فى الحضارة المصرية ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولًا: إن مصر جزء من أمتها العربية يجمعها بها أمن مشترك كما أن دول المنطقة العربية معرضة لمخاطر وفدت علينا فى السنوات الأخيرة تحت مسميات مختلفة وشعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لذلك فإن الحديث عن الأوضاع فى مصر إنما هو جزء لا يتجزأ من الحديث عن الوضع العربى العام بكل آلامه وأحزانه ومتاعبه.
ثانيًا: إن مصر دولة قديمة تملك كل أسباب البقاء والاستمرار مهما كانت التحديات أو المصاعب، كما أنها قد واجهت عبر تاريخها الطويل كل ألوان الضغوط الخارجية والداخلية واستهدفتها الأطماع فى كل العصور ولكنها ظلت دائمًا متماسكة وموحدة وشديدة المراس وعصية على السقوط.
ثالثًا: إن مصر فى حاجة إلى إيجاد حلول ذكية وعصرية وعاجلة لمشكلات الغذاء والطاقة والمسكن معتمدة على صناعة وطنية لابد أن تنهض بدورها كقاطرة للتقدم، فالصناعة هى فى النهاية عملية توظيف العلم لتحقيق التكنولوجيا الحديثة التى تعبر عن الإسهام الوطنى فى مسيرة التقدم الإنسانى كله إذ ليس معقولًا أن نستورد طعامنا وألا توجد لدينا وجبة محلية لفقرائنا وأن تسيطر علينا دائمًا حالة من الإحباط وعدم الرضا فى كل الأوقات.
إننى عندما كنت أتجول فى شوارع أثينا كنت أتساءل ألم تكن الإسكندرية كذلك فى أربعينيات القرن الماضى فيا ترى ماذا جرى وما الذى دهمنا حتى نصبح بهذه الصورة رغم أننا نملك من الموارد البشرية ما لا يملكه غيرنا؟ ولكنه دائمًا سوء الإدارة المسئول الأول عن ضعف إنجازاتنا وتراجع صادراتنا واتساع حجم وارداتنا وضعف التدفق السياحى لبلد يملك مفاتيح الحضارات وانصهرت فى بوتقته الثقافات، لقد كانت تلك كلها خواطر تدور فى ذهنى وأنا أسمع بعض اليونانيين ممن عاشوا فى الإسكندرية أو سمعوا من آبائهم كيف كانت مصر وكيف أصبحت بل إننى أتذكر أن السفينة وهى فى عرض البحر المتوسط خلال ثلاثينيات القرن الماضى كانت تسعى للوصول إلى ميناء الإسكندرية رغم بعدها عنه وقربها من مرفأ يونانى لأن الإسكندرية كانت فى ذلك الوقت هى عروس البحر المتوسط ودرة موانيه ومدنه العامرة.
فلنتأمل أصدقاءنا فى اليونان وكيف يعيشون وماذا يفعلون؟ حتى ندرك أننا نمضى على الدرب الصحيح حتى ولو كان الطريق صعبًا والتحديات هائلة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47454
تاريخ النشر: 8 نوفمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/560041.aspx