كانت تربطنا –والدى، وأنا من بعده- علاقةٌ طيبة بالإمام الأكبر الراحل الدكتور «محمد سيد طنطاوى»، وعندما كنت أعمل فى مؤسسة الرئاسة كان هو لايزال مفتى الديار المصرية قبل أن يتبوَّأ منصب شيخ الأزهر بعد رحيل الإمام الأكبر الزاهد المستقل الشيخ «جاد الحق على جاد الحق».
وقد ظلَّت علاقتى طيبة بالدكتور «طنطاوى» وهو شيخٌ للأزهر، وكنتُ قد تركتُ مؤسسة الرئاسة، فكان يدعونى إلى اللقاءات الأزهرية، وكذلك للتحدُّث فى محاضرات عامة فى قاعة الإمام «محمد عبده»، وكان الذى يديرها ويقدمنى هو الإمام «الطيب» شيخ الأزهر الحالى، الذى كان وقتها رئيسًا للجامعة.
وظلَّت علاقتى بشيخ الأزهر الراحل طيبةً إلى أن بدأ يتردَّد حديثٌ عن دعوةٍ له وجَّهها بابا الفاتيكان «بنديكت السادس عشر» لزيارته، عندئذٍ حذَّرتُ من المواقف غير الودية لبابا الكنيسة الكاثوليكية تجاه الإسلام والمسلمين من خلال تصريحاته غير المسئولة ومواقفه غير المدروسة، رغم أنه كان من أكثر باباوات الكنيسة الكاثوليكية تبحُّرًا فى العلم، واستغراقًا فى الدراسات «اللاهوتية»، وكانت حُجَّتى أن بابا الفاتيكان بدرجة رئيس دولة، وأن درجة الإمام الأكبر بروتوكوليًّا هى نائب رئيس وزراء، وهذا الفارق قد يحدث عنه أثناء الزيارة تصرفٌ لا يليق بمقام الإمام الأكبر.
وقلتُ إن الأمر يستدعى العلم مُسبقًا بالترتيبات البروتوكولية؛ لأن كلا الطرفين يُمثِّل ديانةً سماويةً كُبرى، بغضِّ النظر عن الفارق البروتوكولى بين المنصبين، كما طالبتُ بأن يكون هناك إعدادٌ مُسبقٌ للبيان المشترك الذى سيصدر فى ختام اللقاء بين القُطبين الدينيين الكبيرين.
جرى تصوير شيخ الأزهر فى الصحيفة مرتديًا زى «الكرادلة»، فى إشارةٍ مباشرةٍ لنتائج غير مدروسة لتلك الزيارة المنتظرة، فغضب عليهما الإمام الأكبر، ولجأ إلى القضاء
وعلمتُ أن وجهة نظرى لم تكن متوافقةً مع رؤية شيخ الأزهر الدكتور «طنطاوى»، الذى كان يرى أن هذه شكليات يجب ألا تُعطِّل الزيارة.
وانبرى الكاتب الكبير «عادل حمودة»، ومعه الكاتب الصحفى «د. محمد الباز» فى حملة على الزيارة واحتمالاتها السلبية، حتى جرى تصوير شيخ الأزهر فى الصحيفة مرتديًا زى «الكرادلة»، فى إشارةٍ مباشرةٍ لنتائج غير مدروسة لتلك الزيارة المنتظرة، فغضب عليهما الإمام الأكبر، ولجأ إلى القضاء برفع دعوى سبٍّ وقذفٍ فى حقه من جانب الأستاذ «عادل حمودة» بصفته رئيس التحرير، والدكتور «محمد الباز» باعتباره كاتبًا للمقال.
وحاولتُ شخصيًّا الوساطة لدى الإمام الأكبر، ولكنه كان عنيدًا ومتمسكًا برأيه، وعندما دُعيتُ إلى الشهادة أمام المحكمة باعتبارى خبيرًا سياسيًّا فى الشئون الدينية، دار بينى وبين القاضى -وقد كان نموذجًا رائعًا لرجل القضاء المثقف- حوارٌ على مستوى رفيع من العمق، وقد حيَّانى يومها القاضى تحيةً طيبةً، وأصرَّ على أن أُدلى بشهادتى جالسًا، ولكننى صمَّمتُ على الوقوف احترامًا له وللمحكمة، وقد طلب منى فى نهاية الجلسة أن أحاول مع غيرى بذل جهود لتسوية الموقف وديًّا وترضية الشيخ.
وقد كان الأستاذ «مكرم محمد أحمد» نقيب الصحفيين وقتها، حاضرًا، وأبدى استعداده للمشاركة فى هذه المهمة، ومضت الأيام، وصدر الحكم النهائى بالغرامة المالية، وأفلت «حمودة» و«الباز» من عقوبة الحبس الذي كان مُحتملاً فى ظل غضبة الشيخ، وتوتُّر الأجواء حول المؤسسة الدينية وقتها.
وكانت النتيجة أن صَرَفَ الإمام الأكبر النظر عن تلك الزيارة، خصوصًا أن الحوار بين الأزهر الشريف والفاتيكان كان متوقِّفًا، ثم حدث بعد ذلك بسنواتٍ قليلةٍ أن برح بابا الفاتيكان السابق موقعه طواعيةً ليتفرغ لدراساته وأبحاثه، وجاء بديلاً عنه البابا الحالى بسماحته واتِّساع أفُقه وتواضعه، ولكن تركت تلك الأحداث ظلالاً على علاقتى بالإمام الأكبر الدكتور «محمد سيد طنطاوى» حتى رحيله، وبعد أن كان قد وعدنى بترشيحى عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية عَدَلَ عن ذلك؛ نتيجة الخلاف الشخصى، ولكننى أشهد أن الرجل كان بسيطًا ومتواضعًا وحريصًا على الوحدة الوطنية.. رحمه الله، وعوَّضنا عنه بالإمام الأكبر الحالى الدكتور «أحمد الطيب»، أستاذ الفلسفة الإسلامية والقُطب الصوفى الكبير الذي ينتمي إلى واحدةٍ من أعرق الطرق الدينية فى جنوب مصر.
ولقد ظلَّت علاقتى بالأزهر والكنيسة القبطية معًا قويةً وفاعلةً، وسوف تظلُّ كذلك دائمًا ما بقيت رايات الوحدة الوطنية تُرفرف فى سماء الوطن.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 232
تاريخ النشر: 28 يونيو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%ba%d8%b6%d8%a8-%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b2%d9%87%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d9%82/