إن أبسط تعريف للتكنولوجيا هو أنها توظيف العلم فى خدمة الصناعة بينما يبدو على الجانب الآخر أبسط تعريف للحضارة أنها نسق ثقافى وبناء فكرى يرتبطان بعنصرى الزمان والمكان لذلك فإنه ليس كل تقدم تكنولوجى هو تعبير حضارى ولا أى نسق ثقافى متميز هو صدى لتكنولوجيا معينة، والأمثلة كثيرة فالولايات المتحدة الأمريكية دولة متقدمة فى التقنيات الحديثة لكنها لا تمثل بالضرورة بناءً حضاريًا متماسكًا، وفى عالمنا العربى تبدو مدينة مثل (دبي) أيقونة فى التشييد العمرانى والتقدم التكنولوجى ولكنه يصعب أحيانًا القول بأنها تعبير حضارى يضمن لذاته الاستمرار والدوام، ولقد شهدت فى أثناء إقامتى سنوات فى الهند مجتمعات متخلفة تقنيًا ولكنها متقدمة حضارًيا بمنطق التاريخ وبحكم التراث الإنسانى الذى تضمه، ولماذا نذهب بعيدًا فمصر قد لا تكون هى أكثر دول المنطقة تقدمًا فى النواحى التقنية ولكنها بالتأكيد أعرق دولها حضارة وأقدمها تراثًا بل إنه قد يكون من المدهش أن بعض الحضارات العريقة لا تتمتع حاليًا بقدر مناسب من التقدم التكنولوجى بل وتعانى مظاهر التخلف فى بعض نواحى الحياة اليومية وذلك يدل على أن لزومية الارتباط بين الأصالة الحضارية والتقدم التكنولوجى ليست قائمة دائمًا بل قد توجد إحداها وتختفى الثانية، وذلك يفتح الباب أمامنا لحوار يدور حول النقاط التالية:
أولًا: إن نظرة إلى العالم حولنا توضح أن دول الحضارات القديمة ليست هى بالضرورة الأعلى ازدهارًا أو الأكثر تقدمًا بل إن بعضها يعانى الترهل والشيخوخة والهرم ذلك أن الشعوب تتباهى بحضاراتها ولكنها لا تستطيع الاكتفاء بذلك، فالشعوب لا تقتات تاريخًا ولا تلعق شعارات لذلك تصبح التكنولوجيا أمرًا ضروريًا فإذا اقترن التاريخ العريق بالتقدم التكنولوجى مثلما هو الأمر بالنسبة لدولة مثل الصين فإننا نكون أمام نموذج متوحد جمع الاثنين معًا حضارة عريقة وتقدما كاسحا أما إذا أخذنا النموذج الأمريكى على سبيل المثال فسوف نجد أنه يقدم أرقى تكنولوجيا معاصرة ولكن أقدم شئ لديه لا يزيد على خمسمائة عام بينما الحضارات النهرية الكبرى فى الصين وبابل ومصر الفرعونية والهند القديمة تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ السحيق لآلاف السنين.
ثانيًا: إن مقدمة (ابن خلدون) فى نظرية العمران ونشوء المدن تمثل اسهامًا عربيًا إسلاميًا من هذا الموسوعى التونسى وهو يكتب تفسيرًا مقبولًا لنشوء الحضارات، وسوف نجد أن هناك تفرقة بين حضارة النهر وحضارة الصحراء (Cult of Riverـــ Cult of Desert ) ولعل هذا يفسر إلى حد كبير الفوارق بين مجتمعات البادية ومجتمعات الحضر حتى داخل الدولة الواحدة، وسوف نجد أن العراقة الحضارية يمكن أن ترتبط بأكثر المجتمعات بساطة بل وبدائية بينما يمكن زرع التكنولوجيا فى أحدث المجتمعات نشوءًا وأقلها عمرًا، إنها رؤية متداخلة لا يمكن الجزم بها أو القطع فيها ولكنها تمثل استقراءً شاملًا لحضارات الأمم وثقافات الشعوب.
ثالثًا: سوف يلاحظ المتأمل فى الخريطة الجغرافية المعاصرة أن العواصم نشأت على ضفاف الأنهار أو شواطئ البحار، ولكن الأمر اختلف مع اختراع الطيران وإمكانية الوصول إلى أى بقعة على الأرض دون اللجوء إلى طريق برى أو ممر بحري، ولو أخذنا مصر مثالًا فسوف نجد أن الإسكندرية على شاطئ المتوسط أقدم من القاهرة على ضفاف النيل، فلكل عصر مدنه ومجتمعاته، كما أن الجغرافيا البشرية ليست علمًا استاتيكيًا بل إن فيها ديناميكية تجعلها قابلة للتغيير والتطور وفقًا للعوامل الثلاثة الزمان والمكان والسكان.
رابعًا: لا شك أن البحث العلمى قد لعب فى العقود الأخيرة دورًا هائلًا فى تجسير الفجوة بين العمق الحضارى والتقدم التكنولوجى وأجرى مصالحة بينهما، ولعله يحضرنى فى هذا السياق النموذج الهندى حيث عشت فى ذلك البلد الكبير سنوات أربعا ورأيت الحياة هناك وكأنها متحف للزمان والمكان، فيه الغنى والفقر، فيه التقدم والتخلف، فيه ديانات ولغات وفلسفات بغير عدد! ومع ذلك فالهند دولة نووية ودولة فضاء خارجى بل ودولة اكتفاء ذاتى فى الحبوب الغذائية، فالعمق الحضارى يمكن أن يؤدى إلى التقدم التكنولوجى ولكن العكس يبدو أمرًا عسيرًا ونموذجًا غير شائع.
خامسًا: إن تقادم الأمم وشيخوخة النظم عاملان أساسيان فى تشكيل صورة الدول ذات البناء الحضارى طويل العمر والتى قد تفتقر إلى التكنولوجيا العصرية وتعانى كثافة سكانية عالية وتباهى بتاريخها وتغوص فى حاضرها ولا تبالى كثيرًا بمستقبلها، ولعلنا نتساءل الآن عن دول مثل الصين والهند ومصر والعراق لندرك التفاوت فى معدلات التقدم التكنولوجى رغم الجذور الحضارية الضاربة فى القدم، فالمعيار هو مدى تماشى الدولة مع عصرها وليس مجرد زهوها بتاريخها.
هذه قراءة موجزة فى ملف التباين بين التكنولوجيا فى جانب والحضارة فى جانب آخر حيث تبدو الهوية الثقافية هى الجوهر بينما التقدم التقنى هو القشرة الخارجية للبناء الحضارى إذا كان قائمًا.. إنها قضية العصر وربما كل عصر!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47496
تاريخ النشر: 20 ديسمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/569251.aspx