لا أعرفُ كيف كنا نعيشُ قبل وصول ذلك الجهاز الهاتفي الصغير إلى أيدينا حتى أصبح لدى كل فرد تليفون نقَّال، وربما اثنان أيضًا.
لقد كانت حياتنا هادئةً وأكثر اجتماعيةً مما هى عليه الآن، وعلى الرغم من الفوائد التى لا نُنكرها لذلك الجهاز الصغير الذى قد يُوفِّر على صاحبه سفرة كاملة أو رحلة طويلة، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فللمحمول مشاكله، بل ونوادره، و مازلتُ أتذكر عندما عُدت من «فيينا»، وكان معى جهاز محمول صغير من ماركة «سيمنز» أن ذهبت إلى زيارة بعض الأصدقاء زيارة بريئة تمامًا، ولكنها لم تكن بعلم زوجتى التى كنت قد أوصلتها إلى المنزل بسيارتنا وهاتفتُ البوَّاب برقم المنزل قبيل الوصول حتى يفتح بوابة الجراج، وتركت زوجتى بالمنزل واتجهت إلى حيث سهرة فيها خليط من الشخصيات، وظللنا نتسامر ساعتين أو أكثر.
ثم عدت إلى منزلى فوجدت زوجتى تنتظرنى فى ترقُّب وسألتنى: أين كنت؟ فقلت لها: مع مجموعة من الأصدقاء، فبدأت تسألنى عن بعض الأحاديث التى تداولتها معهم والنكات والقفشات والتساؤلات، فأسقط فى يدى، وشعرت بدهشة بالغة، وتساءلت: من ذا الذى كان يسجل تلك الجلسة ويدفع بمحتواها إلى زوجتى فى المنزل؟!
وقضيت ليلتى والهواجس تطوف بذهنى لتفسير ما حدث دون جدوى إلى أن اكتشفت ما جرى، وهو أننى عندما جلست مع الأصدقاء كان المحمول الصغير فى جيب البنطال، وضغطت عليه دون قصد، فدقَّ آخر رقم كنت قد طلبته، وهو رقم المنزل، فإذا بزوجتى تسمع جرس التليفون بجانبها وتستقبل مكالمة تكتشف فيها صوتى مع آخرين، ويظل الأمر هكذا لمدة نصف ساعة تقريبًا استمعت فيها إلىَّ أنا وأصدقائى نتحدث على طبيعتنا إلى أن فرغت بطارية المحمول وتوقَّف الاتصال.
ومنذ ذلك اليوم أصبحت لا أقتنى محمولاً إلا إذا كان له غطاء حتى لا يتكرر ما جرى لى فى تلك المرة، وكنت أقول فى نفسى الحمد لله جاءت سليمة هذه المرة، ولابُدَّ من الاحتياط بعد ذلك من ذلك الجهاز الصغير الذى يمكن أن يخدع صاحبه ويورِّطه فيما لا يتوقع، ولكننى ظللت أردِّدُ أيضًا أن الحذر لا يعفى من وقوع القدر.
ولقد حدث أكثر من مرة أن تحدثت مع البعض وتصوَّر هو أنه قد أنهى المكالمة وأغلق الخط، بينما يظل مفتوحًا معى فأستمع إلى أحاديث منه وتعليقات له حتى أسرع بإغلاق الخط كى لا أسمع المزيد.
لقد أصبحنا بحق فى عصر انتهت فيه الخصوصية، وأصبح كل شىءٍ متاحًا، بل ومباحًا للجميع، ومن أطرف الأمور أن لى حفيدًا فى السابعة من عمره أحب التحدث إليه دائمًا، وكان يلحُّ علىَّ أن أقنع والديه بأن يكون لديه تليفون محمول أسوة بشقيقه وشقيقته، اللذين يكبرانه بعدة سنوات، وأخيرًا اقتنعت والدته -وهى ابنتى- بضرورة أن يحمل محمولاً صغيرًا لا من أجل الحديث مع جده، ولكن لكى تتمكن هى من متابعة تحركاته فى النادى، وبالفعل وجدته يلبس ساعة يد صغيرة هى المحمول الخاص به، وأصبح متاحًا لى أن أتحدث إليه، وأن أسمع منه عندما يكون ذلك ممكنًا؛ لأنه غالبًا لا يرد على كل المكالمات التى يتلقاها.
وقد أدهشنى مؤخرًا غرام الناس بالأرقام الجميلة والسهلة للمحمول، فترى من يحمل التسعات، وآخر الثمانيات، وثالثا السبعات، ورابعا الستات، وغيرهاجميعًا، وإن كنت أظن أن تلك الأرقام السهلة هى مصيدة للاتصالات الخاطئة على امتداد اليوم.
لقد كنا نعيش دونك أيها المحمول، وكانت حياتنا أكثر هدوءًا، وأقل صخبًا، ولكنها ربما كانت أيضًا أكثر صعوبةً وإرهاقًا، بل وتأخيرًا، وهكذا، فإن كل اختراع مفيد له ما له، وعليه ما عليه.
تحيةً يا محمولى العزيز، فمهما كانت متاعبك، إلا أنها أقل بكثير من فوائدك!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 233
تاريخ النشر: 4 يوليو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%85%d9%88%d9%84-%d9%88%d9%86%d9%88%d8%a7%d8%af%d8%b1%d9%87/