تلقيت دعوة كريمة من رئيس نادي القضاة المستشار محمد عبد المحسن وقد حملها إلىّ مشكورًا الصديق المستشار الدكتور خالد القاضي، ورأيت أنها دعوة جاءت في وقتها وأنه من المتعين عليّ تلبيتها خصوصًا وأنني قد حاضرت السادة القضاة في ناديهم مرتين من قبل، الأولى بدعوة من المستشار مقبل شاكر رئيس النادي في تسعينيات القرن الماضي، والثانية بدعوة من وزير العدل الراحل المستشار فاروق سيف النصر وفي اللقاءين السابقين كان الحوار مثمرًا وصريحًا وكان يدور حول جدوى اشتغال القضاة بالسياسة والآثار الناجمة عن ذلك، أما هذه المرة فقد كانت الدعوة محددة بحديث يدور حول وضع مصر على المستويات العربية والإفريقية والإسلامية مع مناقشة دورها الإقليمي والدولي، ولقد انعقد اللقاء في نادي القضاة النهري الذي جرى تشييده وتجهيزه بذوق شديد، ولقد بدأت الأمسية بحضور وزير الثقافة الكاتب الصحفي حلمي النمنم ومعه رئيس الهيئة العامة للكتاب ورئيسة صندوق التنمية الثقافية حيث جرى افتتاح منفذ لبيع الكتب والسلع الثقافية المعروفة، ولقد جرى تقديمي بكثير من السخاء والكرم من جانب رئيس النادي وكذلك المستشار المسئول عن النشاط الثقافي فيه، وقد لفت نظري بداية أن النادي بدأ يأخذ وضعه الطبيعي للقيام بوظيفته الفئوية خلافًا لما كان يدور في الأعوام السابقة من مباريات سياسية وخلافات فكرية من جانب أطراف مختلفة، وعلى الرغم من تسليمنا بأن القاضي هو ضمير الأمة بغير جدال إلا أنه يرتفع بالضرورة فوق المهاترات الحزبية والمواقف السياسية، فالقضاة هم ورثة الأنبياء ولم يخطأ (شارل ديجول) عندما سأل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عن حال القضاء في فرنسا فقيل له: إنه بخير، فرد قائلًا: إذن فرنسا بخير! فالقضاة هم حصن العدالة وسدنة القانون وحراس الحرية، ولقد تحدثت إليهم في تلك الأمسية عن الأوضاع الداخلية والإقليمية والعالمية وكشفت أسئلتهم من خلال حوار طويل عن فهم عميق لكثير من المتغيرات المحيطة بنا من كل اتجاه وتميزت آراؤهم بالحرص على مكانة مصر وكرامة شعبها وعبروا عن تفهمهم للضغوط الناجمة عن برنامج الإصلاح الاقتصادي ولكن بعضهم أبدى قلقه من بعض الكتابات المتناثرة والأحاديث المرسلة التي تبدو وكأنها حملة ممنهجة ضد القضاة ومرتباتهم وامتيازاتهم، وعلنا نضع في الاعتبار هنا أن القاضي حبيس مهنته ولا يستطيع أن يجد مصدرًا إضافيًا للدخل إلا إذا ترك الخدمة وقد يكون عائد (القضاء الواقف) المتمثل في المحاماة أضعاف أضعاف (القضاء الجالس) أمامه وقد يتعثر ماديًا بعض القضاة ولكن يبقى شرف الرسالة التي يحملونها أكبر وأهم من أي شئ آخر، ولقد عرفت شخصيًا بعض القضاة وأذكر منهم الصديق العزيز المستشار المحمدي قنصوه وأدركت زهدهم في الثروة وحرصهم على العدالة والنأي بأنفسهم تمامًا عن مؤثرات الرأي العام خصوصًا في القضايا الملتهبة، فالقاضي يحكم بصحيح الأوراق ولا يعنيه ردود الفعل لما قضى به، ولقد أبدى القضاة في ذلك اللقاء حرصًا واضحًا على محاربة الفساد باعتباره ظاهرة إنسانية لا يخلو منها أي مجتمع ثم أضافوا إلى ذلك عبارات واضحة عن الحريات وحقوق الإنسان، ولقد سألوني مباشرة عن مكانة القضاء في الدولة المصرية فقلت لهم: إن تجربتي من العمل مع الرئيس الأسبق مبارك تؤكد لي احترامه الشديد لهم وتوقيره لمقامهم مهنيًا ووطنيًا وأنه كان يحكي عن طفولته في (كفر المصيلحة) وكيف كان عبد العزيز باشا فهمي - أول رئيس مصري لمحكمة النقض - يجمع شباب العائلة ويتحدث إليهم ويتباسط معهم، وذكرت القضاة الشوامخ بالأسماء اللامعة في تاريخهم وأشرت تحديدًا إلى المستشار (وجدي عبد الصمد) وخطابيه أمام الرئيسين السادات وهو رئيس لنادي القضاة ومبارك وهو رئيس لمحكمة النقض وقدراته البلاغية ولغته القانونية وجرأته في الإفصاح عن الشعور العام للقضاة واستهجانهم لقانون الطوارئ في تلك الفترة، وقد تحدث أحد القضاة في تلك الأمسية عن تجربته في العمل القضائي بالدول العربية وكيف أن القضاة المصريين كانوا دائمًا محل توقير شديد لدى أشقائهم العرب في دول الخليج حتى أن بعض تلك الدول كانت تطلب من الحكومة المصرية انتدابها لبعض القضاة خارج حدود الفترات المحددة قانونيًا للإعارة حتى أن مصر استنت مبدأ (الضرورة القومية) لمعالجة بعض الحالات ولكي تستجيب لإلحاح الأشقاء في التمسك ببعض رجال القضاء الوافدين إليهم من الكنانة، ولقد فاجأني رئيس نادي القضاة بعد نهاية المحاضرة بتسليمي درع النادي تحية وتكريمًا، ثم دعا الحاضرين إلى عشاء كبير في قاعة الطعام لذلك النادي الذي تذكرنا من خلاله أسماء لعدد من الأصدقاء وكان من بينهم المستشار أحمد الزند وزير العدل السابق الذي كان له دور كبير في تطوير مبنى النادي حتى أصبح مظهرًا مشرفًا يليق بقضاة مصر، ولقد لفت نظري وصول أعداد من القضاة الشباب إلى مواقع مؤثرة في النيابات ومنصات الأحكام بشكل يدعو إلى الاعتزاز بذلك الصرح الكبير الذي كان ولايزال مبعث فخار باعتبار أن القضاء مرفق حيوي ومؤسسة مهمة في الدول المختلفة .. تحية لقضاة مصر وإلى مزيد من التركيز في مهمتهم الصعبة من أجل تحقيق العدالة الناجزة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47510
تاريخ النشر: 3 يناير 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/571403.aspx