الإرهاب هو صناعة الموت، ولا يقابله على الجانب الآخر إلا الثقافة بكل فروعها خصوصًا الفنون بدورها فى تشكيل الوجدان وخلق الروح التى تبعث على الاستمرار فهى التى تجدد شكل الوجود وتربط بين البشر من مختلف الديانات والقوميات والأعراق برابطة إنسانية رفيعة لا يدركها إلا من عايشها وتأثر بها لأنها تعنى السمو والارتقاء والصعود إلى درجات عليا من الشفافية وحب الآخر واحترام الغير، إنها تأخذنا إلى مدارج عليا من الإحساس الرقيق بطعم الحياة، والذين يعادون الفنون هم فى ظنى بعض أعداء الحياة، فالفنان الحقيقى لا يقتل ولا يسرق ويمضى دائمًا فى طريق سوى لأنه يعايش أرق المشاعر ويبعث بأصدق الصور التى تستقر فى أعماق القلوب وتغزو العقول والأفئدة فى وقت واحد، ولنا هنا ملاحظات يجب أن يستوعبها العقل وأن تستقر فى الوجدان وهي: أولها: إن الأديان لا تعادى الفنون ورسالات السماء لا تخاصم فنون الأرض بل إن الطقوس فى المعابد اليهودية والترانيم فى الكنائس المسيحية وتلاوة القرآن والتواشيح فى المساجد الإسلامية تؤكد كلها أن الفن واحد من أدوات تبليغ الرسالة وتطهير النفس وغرس الفضائل ومكافحة الرذائل، كما أن الفنون التشكيلية فى أبنية الكنائس وعمارة المساجد وتشكيل المعابد تدل على خدمة الفن للدين وتؤكد غياب الخصومة بينهما. ثانيتها: إن نبى الإسلام محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد رضى بأن تضرب امرأة بالدف بين يديه وفاءً لنذرٍ إذا انتصر فى إحدى الغزوات، وعندما وصل عمر بن الخطاب جرت السيدة بعيدًا خوفًا من عمر وبطشه حتى قال نبى الإسلام العظيم: يا عمر لقد فر عنها شيطانها! بل إن تلاوة القرآن وترتيله ورفع الآذان بصوت جميل هى تأكيد لحفاوة الإسلام الحنيف بالفن الرفيع، وقد اختار النبى (بلال بن رباح) ليكون مؤذن عصر النبوة لحلاوة صوته وطلاوة أدائه، ولماذا نذهب بعيدًا؟! إن القرآن الكريم وهو كتاب الله سبحانه وتعالى جاءت لغته موسيقية الجرس ناعمة اللفظ تفوق كل ما عداه حتى أصبح القرآن الكريم بحق هو قاموس العربية الخالد. ثالثتها: إن الأزهر الشريف لم يكن بعيدًا فى تاريخه الحديث عن الموسيقى والفنون ولنتذكر أن أسماء مثل الشيوخ سلامة حجازى وسيد درويش وزكريا أحمد وسيد مكاوى - وهم من أساطين الغناء والطرب فى التاريخ العربى - عبروا فى مراحل من حياتهم على الأزهر الشريف فتأثروا بعلومه وتفتحت مداركهم على المعارف الواسعة دون قيود ولم يكن بينهم وبين الفن حاجز، فـالإسلام لا يحرم الفنون والأزهر لا يعادى الثقافة بكل أنواعها وفروعها إذ تقترب تلك الجامعة العريقة من الحياة العصرية فى الطب والهندسة والاقتصاد والرياضيات وعلوم الجمال وفنون الأدب مع عناية حديثة باللغات الأجنبية وتدريسها لأنها مفتاح التواصل بين المسلمين وغيرهم، ولقد اعتبر النبى أن (من تعلم لغة قوم أمن شرهم) فى إطار دعوته الخالدة لطلب العلم ولو فى الصين! رابعتها: إن القتل والذبح والحرق وتعذيب البشر هى أمور تتنافى مع كل الشرائع لأنها شريعة الغاب وحده فضلًا عن أنها تتنافى مع الرسالات السماوية والأرضية والمبادئ الروحية والعقلية أيضًا لذلك فإن الإرهاب الذى يطل بوجهه الكئيب على المنطقة يبدأ سطوته بتحطيم الآثار الرائعة وتقويض التراث الإنسانى العظيم وسرقة المتاحف وقتل العلماء والأثريين لأنهم يتحدثون باسم الصناعة التى يجيدونها وهى صناعة الموت وليس بالصناعة الأخرى التى تدعو إليها الأديان وهى صناعة الحياة. خامستها: إن الأديان مثل الفنون لا تفرق بين البشر ولا تميز بين الناس وتؤمن بالمساواة والعدالة حتى إننا نردد دائمًا أن الموسيقى هى اللغة العالمية الأولي، وأن الفن هو القاموس الإنسانى المشترك الذى تطرب له كل الأفئدة وتتجاوب معه جميع الأرواح بل إن بعض الحيوانات تهزها الموسيقى وتطربها الأصوات الجميلة، وإذا أخذنا الفنون التشكيلية سوف نلاحظ سيطرتها على المعابد القديمة والمقابر الضخمة وجدران الكنيسة وقباب المسجد وزخارف المحراب من أجل الربط بين الطرح الروحى والإبداع الإنساني، والذين يظنون أن الإسلام يرفض النحت والتصوير لا يدركون الفلسفة الحقيقية لذلك الدين الحنيف الذى يحترم الجمال ولكنه يعادى الوثنية وتقديس التماثيل أو الصور المبتذلة، فلنبحث فى جوهر الأديان لنرى أنها صناعة الحياة بحق ولا تقبل التدمير والتخريب والعبث.
إننى أتذكر ذات يوم أن أوفدنى الرئيس الأسبق حسنى مبارك إلى الإمام الأكبر الراحل الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر لأنقل له رسالة عن قلق الرئيس مما أشيع عن اتجاه الأزهر الشريف لإصدار بيان يهاجم الفنون ويخاصم الإبداع، وقد استقبلنى الإمام الأكبر فى مكتبه وجلست إليه ساعة أو بعض ساعة استمع إلى رأيه فى قبول الفنون غير المبتذلة واحترام الإبداع الهادف وحملنى رسالة واضحة فى هذا السياق إلى رئيس الدولة الذى كان يقدر كثيرًا رجال الدين ورجال القضاء ويضعهما فى منزلة خاصة لا يعلوها أحد، وقد حكى لى الشيخ جاد الحق يومها بعضًا من طرائف التاريخ الإسلامى وأتذكر أنه كان من بينها قصة هند زوجة الحجاج بن يوسف الثقفى وطلاقها منه ثم زواجها بالخليفة الأموى وتندرها على الحجاج الدموى بقصة الدينار والدرهم، ثم أردف الإمام الراحل يومها - وقد كان عالمًا صلبًا لا يلين إلا للحق - قائلًا: إننا مع الفن الذى يصعد بالإنسان إلى السمو الروحي، ولسنا مع الفن المنحط الذى يخاطب الغرائز ويهدم القيم!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47517
تاريخ النشر: 10 يناير 2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/572538.aspx