أوصى نبينا الكريم بالجار خيرًا فى امتداد إنسانى إلى الجار السابع، فما بالنا إذا كان هو جارى مباشرة على هذه الصفحة، وليس بالطبع ذلك هو دافع الكتابة عن الكتاب الذى جعلت اسمه عنونًا لهذا المقال احتفاءً بعقلية متوهجة وفكر عميق لفيلسوف معاصر هو الكاتب الصحفى صلاح سالم الذى يبدو الكثيرون مبهورين به ولكنهم للأسف من الصفوة الفكرية والنخبة الثقافية لأن عمق كتاباته وشمول رؤيته لا تسمحان دائمًا بتداول ما يكتب أو المضى فيه شأن موقف العامة من كبار الفلاسفة والمفكرين، وكتاب (جدل الدين والحداثة) هو فى نظرى كتاب عام 2017، وفى ظنى أيضًا أن صاحبة لم يلق التكريم الكامل من الدوائر الثقافية والفكرية والمدارس الفلسفية المعاصرة فى مصر رغم أنه حصد بعض الجوائز العربية والدولية، نعم .. لقد كتب عنه الصديق د. أسامة الغزالى حرب فى عموده اليومى بالأهرام منذ عدة شهور وقد أعطاه فيه بعض ما يستحق، وها أنا أضم اليوم صوتى إليه مبشرًا بميلاد فيلسوف مصرى كبير وكأنما أردد قول عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين لدى استقباله لأول أعمال الفيلسوف المصرى الراحل د. عبد الرحمن بدوي! والكتاب الذى بين أيدينا اليوم نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب ويقع فيما يزيد على خمسمائة وسبعين صفحة من القطع الكبير، ويبدأ الكاتب الفذ مقدمته تحت عنوان من الموقف التوفيقى إلى منهج النقد التاريخى يقول الفيلسوف صلاح سالم ( يرتبط مدى حضور الدين أو غيابه بقدرته على تكريس روحانية مؤمنة ينمو معها الشعور بالتواصل مع المقدس على نحو يكفل طمأنينة للنفس وتساميًا على الغرائز وتناغمًا مع المبادئ الأساسية للوجود، وهكذا تنمو العوالم الداخلية للإنسان إذ يرتبط المؤمن رأسيًا بعالم الغيب على نحو يذكره بمآله ومصيره ويستخرج منه أنبل ما فيه كالضمير الأخلاقى المريد للخير، والهياب للشر، المدفوع إلى الحق والرافض للظلم، كما يرتبط أفقيًا بعالم الشهادة حيث البشر الآخرون ربطًا يقوم على المحبة والتراحم ويناهض القسوة والعنف) ثم ينتقل الكاتب بين صفحات كتابه فى عمق المفكر ورشاقة من يسيطر على الأدوات البحثية لموضوعه سيطرة كاملة فهو يقول تحت عنوان نهاية الفلسفة أم تواضع الفلاسفة؟ ( مر القول بنهاية الفلسفة عبر موجتين أساسيتين، الأولى: جاءت فى وقت مبكر كثيرًا حتى قبل (كارل ماركس) الذى قال تلك النهاية منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر باعتبار أن الفلسفة ليست إلا مستودعًا لطموحات البشر الحالمين، وبفعل بلوغ المادية الجدلية محطتها النهائية حيث يكمن المجتمع الشيوعى الذى سيتحرر فيه الإنسان من سطوة رأس المال ويتحرر الوعى من سطوة الأوهام فإن الرغبة فى التفلسف سوف تتوقف) ثم ينتقل المفكر المصرى الواعد ليتحدث فى مبحث مثير عن تأزم مشروع الإصلاح الديني، وتحت عنوان الامتداد التاريخى والإسلام السياسى يقول ( وربما كانت دعوة الإمام محمد عبده إلى الإصلاح الدينى فى السياق الإسلامى مطلع القرن العشرين أكثر عمقًا من دعوة مارتن لوثر إلى الاصلاح فى السياق المسيحى مطلع القرن السادس عشر، فلقد سعى المُصلِح البروتستانتى إلى تحرير المسيحى من سلطة الكنيسة ومن هيمنة أعمال وكتابات كبار باباواتها وقديسيها مؤكدًا محورية الإنجيل وإتاحة قراءته لكل مسيحى كفرد حر خصوصًا بعد أن قام بترجمته من اللاتينية إلى الألمانية، أما الإمام المسلم محمد عبده فقد طمح إلى تجديد رسالة التوحيد نفسها إذ رأى فى النص القرآنى معانى ثورية لمفهوم الألوهية ومغزى الإنسانية كانت طمست تحت وطأة تراث الاستبداد والقهر والخرافة) ثم يتطرق المؤلف باقتدار واضح إلى فكر الإخوان المسلمين فى الإطار العام للإسلام السياسى كله، وهو يرى ( أن حسن البنا مؤسس الجماعة لم يرفض الدستور المصرى بدعوى استناده على أسس أن السلطة تشرك بحاكمية الله، وإنما طالب بتعديله ليلائم مبادئ الشريعة الإسلامية، ورغم أن البنا رفض الحزبية واعتبر جماعته ليست حزبًا إلا أنهم خاضوا تاريخيًا فى اللعبة الحزبية وتحالفوا مع أحزاب ضد أخرى وترشحوا للانتخابات!) ولقد كان سيد قطب بعد ذلك منهجًا متطورًا، بدأ معتدلًا ثم انتقل إلى أعلى درجات التشدد الذى يصل إلى تكفير المجتمع، ويختتم المؤلف كتابه البديع والعميق فى ذات الوقت بتحليل واضح للانتقال من الجدل الخطابى إلى لاهوت التحرير الإسلامي، وهنا يقرر صراحة ( أن الخطاب الفكرى العربى قد خضع لنزعة دفاعية واضحة لنحو قرنين كاملين كان خلالهما مهووسًا بالغرب وبالرغبة الدفينة فى تزويق صورة تديننا الإسلامى فى مواجهته، حيث تعين على فقهائنا ثم مفكرينا القيام بمهمة نفى العلاقة بين تخلفنا الحضارى وبين إيماننا الإسلامى، وهى قضية كبرى استغرقت بحوثًا مطولة).
إن كتاب ابن الأهرام الأستاذ صلاح سالم (جدل الدين والحداثة) هو أيقونة ترصع سماء الفكر المصرى وتؤكد أن (طريق صلاح سالم) الذى يشق وسط القاهرة كأطول شوارعها قد وجد الآن طريقًا موازيًا هو (طريق صلاح سالم) الذى يشق ضباب الفكر بفيلسوف مصرى معاصر يعتز به الوطن كثيرًا!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47524
تاريخ النشر: 17 يناير2017
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/574543.aspx