ترددت مقولة حول هذا المنصب تقول: إن الوزير قد يفقد نصف عقله عند تعيينه ويفقد النصف الثانى عند انتهاء وجوده فى منصبه، وقد يكون ذلك قولًا لا يعبر بدقة عن الحقيقة ولا يخلو من مبالغة، ولكن الأمر الذى لا مراء فيه هو أن لهذا المنصب بريقًا ساطعًا، خصوصًا فى المنطقة التى نعيش فيها، إذ إن التقاليد المرعية ترفع من قدر المنصب كثيرًا وتجعله يخرج من نطاق الخدمة إلى نطاق الوجاهة، فيغلب فيه التشريف على التكليف، ونصبح أمام نمط مختلف لشخص عرفناه من قبل ولم نكن ندرك ردود فعله الجديدة للمناصب وبريقها الخاطف، ولقد ورد فى الذكر الحكيم قول الله سبحانه وتعالى، على لسان موسى: «واجعل لى وزيرًا من أهلى هارون أخى»، فالحضارة الفرعونية الملهمة عرفت الوزير ومكانته، كما أن الحضارة العربية الإسلامية استوعبت تمامًا أهمية هذا المنصب، وفى التاريخ المصرى الحديث كانت كلمة «ناظر» هى الأصل بدلًا من كلمة وزير، فكنا نقول- على سبيل المثال- ناظر الحقانية بديلًا لكلمة وزير العدل، وعندما تولى الأرمنى «نوبار باشا» رئاسة الحكومة فى القرن التاسع عشر كان لقبه ناظر النظار، ثم تطورت الأمور فى مصر الحديثة لنأخذ بالتعبير الوزارى المعاصر على النمط الأوروبى، والمعروف أن النظام الفرنسى هو مَن ابتدع فكرة الوزير الأول، أى رئيس الوزراء، وقد أخذت عنه دول شمال إفريقيا العربية، وفى ظنى أن ذلك التعبير أقرب إلى الحقيقة، خصوصًا فى النظم الرئاسية، لأن درجة رئيس الوزراء تعنى أنه الأول بين متساوين.
.. وهنا يجب أن نفرق بين نوعين من الوزراء، بين «الوزير السياسى»، الذى يضع الخطوط العريضة لسياسات وزارته، بالتشاور مع البرلمان، وفى إطار الالتزام بالحزب الذى ينتمى إليه، ويعاونه وكيل دائم يقوم بتسيير العمل اليومى للوزارة، وبين «الوزير التكنوقراط»، الذى يقف عند حدود الجوانب الفنية لعمله، تاركًا الخطوط العريضة لسياسات وزارته لما يتم تحديده فى إطار خطة الدولة التى يلتزم بها حرفيًا، ويمكن له أن يجتهد ببعض الاقتراحات والتعديلات، التى قد تقبلها رئاسة البلاد أو تغض النظر عنها، ولقد شهدنا فى لبنان مؤخرًا ذلك الحوار الساخن بين دعاة الحكومة الحزبية والحكومة التكنوقراطية ودوافع كل طرف فيها، فالأحزاب السياسية القوية صاحبة مصلحة فى حكومة حزبية بالدرجة الأولى، أى وزراء سياسيون يمثلونها، ولعل حزب الله- صاحب الثلث المعطل عند اللزوم- يبدو نموذجًا لذلك، أما أولئك الذين يريدون حكومة تكنوقراطية أقرب إلى حكومات تسيير الأعمال فهم أولئك الذين لا يتمتعون بأوزان سياسية نتيجة غياب الثقل الحزبى لهم على الساحة السياسية،
ولقد عرفنا قبل ثورة يوليو عام 1952 الوزير السياسى، فلم يكن غريبًا أن يكون وزير الصحة أو وزير المواصلات حقوقيًا، ولكن بعد الثورة برزت طبيعة الوزير التكنوقراط فى ظل التأثير القوى للزعامة السياسية للبلاد فى عهد عبدالناصر ومَن بعده، فعندما كان الوفد يأتى إلى الحكم كان يمكن التنبؤ بأن عثمان محرم هو وزير الأشغال العمومية، أو أن محمد صلاح الدين هو وزير الخارجية، بينما اختلف الأمر فى العصر الجمهورى، فأصبحنا أمام مجموعة من الشباب المتعلم فى الخارج والعائد من الدراسات العليا المتميزة، تتقدمهم أسماء مثل عزيز صدقى، رائد الصناعة، الذى اختاره عبدالناصر، بعد أن اختبره من خلال حوار فى جولة بالسيارة معه، كما ذكرت بعض المصادر، إلى جانب أسماء أخرى منها مصطفى خليل وعبدالرزاق صدقى وسيد مرعى وعبدالمنعم القيسونى وغيرهم من نجوم الوزارات الفنية فى عهد الرئيس الراحل، كما أن السادات استوزر بعض اليساريين من أمثال إسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى ومحمد إمام، والخلاصة إذًا أن الدولة الحديثة تركز على الوزير السياسى إذا كانت تأخذ بالنظام البرلمانى، وتكتفى بالوزير الفنى إذا كانت تأخذ بالنظام الرئاسى، وليس يعنى ذلك بالطبع أن الوزير الفنى لا صوت له ولا قيمة لمكانته، بل هو يستطيع أن يحقق ما يريد من خلال توظيف آرائه الفنية فى إطار الرؤية السياسية الشاملة للنظام مثلما هو الأمر لدينا حاليًا، بدليل أننا نميز- غالبًا- بين الوزير الناجح المنجز والوزير الروتينى الباهت.
إن منصب الوزير لم يعد منصبًا شرفيًا ولكنه أصبح تكليفًا وطنيًا يتم التدقيق فى اختياره وتبتعد المجاملة عن استمرار وجوده، فمصر حاليًا تضع القواعد المؤسَّسية فى الاختيار بما يحقق الصالح العام ويؤدى إلى تعظيم المصالح العليا للبلاد.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1448949