عانت الشعوب العربية السطوة العثمانية التي قهرت شعوبها ونشرت الظلم والجهل في كثير من أركانها
إن نقطة الالتقاء بين الجغرافيا والتاريخ -أي بين المكان والزمان- هي الفيصل في تحديد الهُوية بدءاً من استقراء الماضي وصولاً إلى فهم الحاضر، والعرب يحتلون رقعة ممتدة في القارتين الآسيوية والأفريقية، وإذا كانت العروبة خرجت من الجزيرة العربية ومرَّت على الشام والعراق ومصر حتى قَدِمَ الفاطميون من شمال أفريقيا إلا أن ذلك كله لا يعني أن الأغلبية العددية للعرب من آسيا، بل إن الأمر مختلف.
إن الإحصاءات الأخيرة تؤكد أن ثلثي العرب يعيشون في القارة الأفريقية، ومع ذلك برزت حساسيات تاريخية بين العرب والأفارقة، وشعر الأفارقة دائماً أن العرب لم يكونوا دوماً أصحاب علاقات طيبة بالشعوب الأفريقية أو بالعنصر الزنجي عموماً، بل استقرّ في ذهنهم أن العرب يشعرون بكثيرٍ من التعالي على شعوب القارة السمراء، خصوصاً أن نظام الرق في التاريخ العربي ارتبط فترة طويلة بلون البشرة.
بل زاد الأمر على ذلك بتواتر روايات مدسوسة تتحدث عن دور العرب في مهنة (النخاسة) أو تجارة الرقيق في بعض المواقع داخل القارة الأفريقية، حتى إنه قيل إن برلمان إحدى الدول الأفريقية الحديثة وضع لوحة عند المدخل تصوِّر تاجراً بالزي التقليدي العربي يسحب مجموعة من العبيد للاتجار فيهم أو تصديرهم إلى أماكن مطلوبين فيها.
ورغم أن التاريخ العربي الإسلامي لا يتسق مع هذه الروايات المشكوك فيها التي روَّجت لها دوائر استعمارية غربية لتبرئة الرجل الأبيض وإلصاق تُهمْ جلب العبيد من أفريقيا إلى أوروبا والعالم الجديد بالعرب، ولذلك فإنني أزعم أن العلاقات العربية الأفريقية لا تخلو تاريخياً من بعض التوتر.
وما زلت أتذكّر أن الزعيم الأفريقي (موبوتو) قال ذات مرة: "إننا نريد أن نُقيم منظمة أفريقية مستقلة لجنوب الصحراء، لأن الدول العربية في شمال أفريقيا تحاول تطويع أعمال المنظمة لخدمة قضايا الشرق الأوسط والمشكلات العربية القائمة، بينما تأتي الاهتمامات الأفريقية في المرتبة التالية".
ورغم أن هذا القول ينطوي على شيء من الظلم الواضح والخطأ في التحليل فإنه يعكس إلى حدٍ كبيرٍ طبيعة العلاقات التي امتدت عبر القرون بين العرب والأفارقة، وقد ذكرنا أن ثلثي العرب يسكنون القارة السمراء، وينتمون إليها بالجغرافيا والتاريخ معاً، ولا يخفى على أحدٍ أن الدول الإسلامية في أفريقيا هي نتاج للمد الإسلامي الوافد إلى القارة من المشرق العربي وشرقي البحر الأحمر وسواحل المحيط الهندي التي عرفت الإسلام مبكراً قبل أن يزحف به الهنود وأبناء شرق آسيا من المسلمين تجاه شعوب القارة التي عرفت الدعوة الإسلامية والتبشير المسيحي في آن.
وانعكس ذلك على التكوين المختلط دينياً لكثيرٍ من الأسر الأفريقية، وإذا انتقلنا إلى الجانب الآخر فإننا سوف نجد أن علاقة العرب بالفرس علاقة ملتبسة تاريخياً، خصوصاً أن العرب فرّقوا في ظل ازدهار الدولة العباسية بين العرب والعجم، واعتبروا دائماً أن غير العرب هم من (الموالي) الذين يعيشون في دار الإسلام، لكنهم لا يحملون جينات عربية تسمح لهم بالاندماج الكامل.
وما زلنا نتذكّر الحساسيات الموروثة بين القوميتين العربية والفارسية التي استمرّت حتى سنوات تعاظم قوة الدولة العثمانية، إذ كانت تلك الإمبراطورية العربية السُّنية تبدو في مواجهة مع الدولة الصفوية الشيعية التي بلغت ذروتها في حكم الشاه إسماعيل تحت مظلة المذهب الشيعي الذي تبنته إيران بعد ظهور الشيعة العرب بعدة قرون، وبذلك تجذّرت دائماً عناصر الاختلاف ومظاهر الحساسية بين الأمتين العربية والفارسية.
وظل العراق دائماً حارساً أميناً على البوابة الشرقية للأمة العربية، وإذا نظرنا جغرافياً إلى تركيا فإن علينا أن نتذكّر أن الدولة العثمانية كانت لوناً من ألوان الاستعمار الذي زحف على العالم العربي قادماً من أواسط آسيا، مكتسحاً في طريقه دول البلقان لكي يفرض سطوته على المنطقة لأكثر من سبعة قرون، وكان يحمل في داخله إحساساً كامناً بالاستعلاء على العرب، بل وعلى القوميات الأخرى أيضاً.
لذلك، عانت الشعوب العربية كثيراً من السطوة العثمانية التي جسمت على ظهرها، وقهرت شعوبها، ونشرت الظلم والجهل في كثير من أركانها، وحيث عانى العرب من الحساسيات الأفريقية التي يمكن الشعور بها أكثر في منطقة القرن الأفريقي خصوصاً الدولة الإثيوبية، إذ ترسخ شعور بالتميز لورثة عرش سليمان أمام أولئك الذين لا يشاركونهم في الأصول العرقية، ويختلفون عنهم في طبيعة الهُوية، فأصبح على العرب أن يواجهوا نوعاً من الحساسيات الموروثة في علاقاتهم بأشقائهم الأفارقة، فضلاً عن رصيد القلق المتبادل مع القومية الفارسية، يضاف إلى ذلك التراكم السلبي للعلاقات التركية العربية، بحيث أصبح هذا المثلث عاملاً مؤثراً عند استقراء التاريخ أو دراسة الجغرافيا حتى كان التحوّل الكبير عندما قامت دولة إسرائيل لتشد الأنظار في اتجاه مختلف، ولتضيف عبئاً واضحاً على الخلافات التي يضمها فضاء الشرق الأوسط.
وهو أمرٌ جعل الدور العربي دائماً محكوماً بكثيرٍ من الأزمات، بل والمخاطر في كل اتجاه، ولو طبقنا الأمر على الخريطة الحالية لوجدنا ما يؤكد ذلك، فلقد أدهشني ذات يوم رد فعل طهران للغزو التركي شمالي سوريا، إذ اعتبرته العاصمة الإيرانية أمراً مفهوماً ومبرراً، رغم أن إيران حليفٌ مباشرٌ لنظام بشار الأسد، وبذلك نشعر دائماً أن الكل مستعدٌ للتحالف ضد العرب بالدرجة الأولى، ونحن نظن أن العلاقات التركية الإسرائيلية جيدة، والعلاقات الإيرانية الإسرائيلية محتملة، والعلاقات الإثيوبية الإسرائيلية قوية، وبذلك تمكّن الكل من تطويق المنطقة العربية بمحاذير لا تنتهي، ومخاوف لا تتوقف، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولاً: إن الصراعات الإقليمية أصبحت بديلاً عن الحروب العالمية، ولذلك فإننا لا نندهش لذلك الكم من الأزمات المتداخلة في المنطقة العربية، لأن الهدف في النهاية هو تعطيل نموها وتعويق تقدمها، كما أن ما يجري في المنطقة هو تعبيرٌ عن الصدام بين ما يراه العرب عن أنفسهم، وما يراه الآخرون عنهم.
ثانياً: إن التحالفات التقليدية لم يعد لها مكان، كما أن هناك نوعاً من التحالفات الجديدة التي نطلق عليها -مجازاً- تعبير التحالفات الناقصة، أي أن تكون هناك مجموعة من الدول تحكمها أرضية مشتركة، لكنها لا تتفق تماماً في كل القضايا وكل الأمور، ولعل العلاقات بين موسكو والدول العربية هي أوضح نموذج لذلك.
فالعرب يدركون جيداً أن هناك محاولة لاستخدامهم في الحرب الباردة سياسياً واقتصادياً بين الولايات المتحدة والغرب عموماً، والصين وبعض القوميات الآسيوية على الجانب الآخر، لكن الرواية لا تنتهي، فالخلاف في الرأي يبدو محتدماً حول قضية المصالح الجديدة للقوى الكبرى في عالمنا المعاصر.
ثالثاً: يجب أن ندرك أننا نعيش في عصر السرعات المتفاوتة، ولا توجد سرعة ثابتة تتحرك بها كل القوى أو حتى التيارات حول مركز العالم المتمثل في الدول العربية، فهناك من يسعى بمعدل يختلف عن غيره، ولم يعد مقبولاً أن يجري تعطيل الأسرع لصالح الأبطأ، فقد أصبحت نظم الحكم مستعدة لتقديم أساليب مرنة في مسألة التوقيت المتفاوت.
إن الإنسان هو ابن الطبيعة، وتتحدد شخصيته بالالتقاء بين بعدي الزمان والمكان، وهكذا نجد العرب نتاجاً طبيعياً للتلاقي بين البعدين الزمني والمكاني مع تراث ثقافي ضخم وتراكم طويل من التجارب التي حملت في طياتها أسباب الاستقرار وعناصر التوحد فوق الأرض العربية.
جريدة اندبندنت عربية
https://www.independentarabia.com/node/80936/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE