يشعر المرء بحالة من الاغتراب عندما يجد نفسه فى محيط لا يتسق معه أو عندما يرى أن الأجيال الجديدة امتلكت أدوات للمعرفة لم تكن متاحة فى جيله هو، ويأسف المرء كثيرًا لذلك ويعتمد على مَن يعاونه فى فهم شفرة المستقبل وفك طلاسم الرموز بدءًا من زملائه وصولًا إلى أحفاده، والذين يعانون أمية نسبية فى التكنولوجيا الذكية تلح عليهم تلك الإضافة العلمية الكبرى ببريقها الأخاذ وساعاتها المسلية، كما أننى أحسب أن العجز الإلكترونى الكامل هو نوع من الأمية التى تفصل صاحبها عن كثير من متع العصر وتسهيلاته، ولأن الإنسان يشعر بالانفصال عن أجيال تالية عندما مضى به قطار العمر، ولذلك فإننى قد حرصت شخصيًا على التدريس فى الجامعات، ولو لأيام محدودة كل فترة، لأن ذلك يربط بين الأجيال ويسمح لأمثالى بأن يتسمعوا نبض الأجيال الجديدة وأفكارهم الحديثة، بل لغتهم المختلفة، إذ إننى أزعم أننا فى وقت قد خمد فيه صراع الطبقات وتراجعت صراعات أخرى من أولويات الحياة ولكن صراع الأجيال لا يزال قائمًا، ولقد كتبت منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا كتابًا تحت عنوان: «حوار الأجيال» تعبيرًا مهذبًا عن الصراع الكامن تحت الرماد، وخلصت دائمًا إلى أن كل جيل يبحث عن شخصيته المنفردة وخصائصه الذاتية، كما أن لكل جيل رموزه وشخوصه وأطروحاته، وإن كنت أعتبر تميز أحد الأجيال بمثابة شهادة إيجابية فى حق الجيل الذى سبقه، خصوصًا أننا نكتشف أحيانًا أننا أمام جيل بنى وجيل تلاه هو الذى جنى! وقد شعرت بذلك وأنا ألقى كلمة افتتاحية فى الاحتفال بإعادة ترميم المعبد اليهودى بشارع النبى دانيال فى الإسكندرية، وذلك بدعوة كريمة من أ. د. خالد العنانى، وزير السياحة والآثار، وفى حضور حشد ضخم من أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث، يتصدرهم محافظ الثغر، اللواء محمد طاهر الشريف، ورئيس جامعة الإسكندرية د. عصام الكردى، وعالِم الآثار الشهير د. زاهى حواس، ود. مصطفى وزيرى، أمين عام المجلس الأعلى للآثار، والمهندس صلاح محسن، رئيس «المقاولون العرب»، وهى الشركة التى نفذت عملية الترميم والتطوير وحققت إنجازًا كبيرًا حتى خرج الحفل بمثابة صفعة على وجوه مَن يعادون إسلامنا ويقللون من شأن دياناتنا، بل يشجعون فى جرأة ووقاحة شعار «الإسلاموفوبيا». ليتهم حضروا ذلك الحفل الضخم، الذى احتشد فيه المئات من مختلف الأعمار والتخصصات والديانات لأن مصر بعثت من خلاله برسالة إلى العالم كله بأنها كانت ولا تزال وسوف تظل حاضنة التراث الإنسانى وملتقى الثقافات ومركز انصهار الحضارات بلا تعصب أو إقصاء، لقد رأيت الأجيال الجديدة من شباب الإسكندرية وهم يدخلون هذا المبنى لأول مرة ويتعرفون على الدنيا حولهم ويدركون أن مصر بلد الجميع ترحب بكل مَن يقف على أرضية وطنية فيها، مدافعًا عن حقوقها راعيًا لمصالحها، ولقد ذكّرت الجميع- ووسط عشرات من مندوبى وكالات الأنباء- بأن المصريين شعب صانع للحضارات محترم لكل الديانات، وذكّرت الجميع أيضًا بأن هذه المبانى الدينية ظلت مصانة فى مصر ولم يمسسها بشر فى أعوام الحروب المحتدمة 1948، 1956، 1967، 1973، بل إن فى الإسكندرية وحدها ما يزيد على عشرة معابد وفى القاهرة مثلها أو أكثر، وذكّرت الجميع بأن وزير المالية المصرى كان يهوديًا فى عشرينيات القرن الماضى، هو قطاوى باشا، وأن الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية كان عضوًا فى لجنة وضع دستور عام 1923، ولولا قيام دولة إسرائيل اغتصابًا وعدوانًا لظل اليهود المصريون مع أشقائهم فى الوطن ينعمون بدفء مصر وشمسها التى لا تغيب، ولقد بادرت مصر بترميم تلك المعابد لأنها مِلْك للشعب المصرى وجزء من تراثه الأصيل، ولقد بدأت هذه المهمة فى عهد الوزير فاروق حسنى، وزير الثقافة الأسبق اللامع، بجهد ضخم من رئيس هيئة الآثار وقتها، الدكتور زاهى حواس، المعروف بنشاطه الدؤوب حتى جاء الوزير الحالى ليكمل المسيرة، وكم كان خالد العنانى رائعًا وهو يلقى كلمته باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية مرتجلًا.. لقد كانت أمسية مصرية بامتياز أزالت اغترابى وشعرت فيها بأن الشعوب تحيا، وأن الأمم لا تموت، وأن الدين لله والوطن للجميع!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1461616