سطعت في سماء البشرية في العصر الحديث شخصيات مؤثرة في مسار الحياة السياسية والإرهاصات الفكرية والتجليات الوطنية، وقد اخترت شخصية من كل قارة من قارات العالم القديم الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا لكي ألقي الضوء من خلالها على الدور الكبير الذي لعبته تلك الشخصيات الكبرى في القرن الماضي، وأبدأ بالقارة الأولى فاختار المهاتما غاندي كأعظم شخصية خرجت من آسيا في القرن العشرين؛ إذ أن ذلك الزعيم الزاهد يسبق في ظني ماو تسي تونج أو غيره من الأسماء الكبرى التي تأتي بعده في الترتيب من تلك القارة الأكبر في جغرافيا الكون، ولا يقف اسم غاندي عند حدود شخصيته مقاومًا عنيدًا للسيطرة الأجنبية والاحتلال البريطاني ولكن الرجل يتجاوز ذلك لكي يكون روحًا تعيش في التاريخ البشري كله دون زوال وفلسفة تستقر في أعماق الشعوب ما دامت الحرية هدفًا والاستقلال غاية والمقاومة السلبية أسلوبًا لمواجهة قوى الشر والطغيان، إن تاريخ حياة المهاتما غاندي يجعله تجسيدًا لإنسان العصر بشفافيته وطهارته ونزاهته وتسامحه وبغضه للتعصب ورفضه لثقافة الكراهية حتى دفع حياته ثمنًا لهوس متطرف هندوكي عاب على المهاتما محاولته احتواء الأقليات والمساواة بين أبناء وطنه فقد كانت حياته بما فيها من زهد وتقشف وقناعة ورضا نموذجًا رائعًا لا يتوقف عند حد، لقد فتح آفاقًا واسعة أمام أمته الهندية وقارته الأسيوية امتد تأثيرها في أرجاء الدنيا بل إن الحقبة التي عاشها في جنوب إفريقيا قد تركت هي الأخرى أثرًا إيجابيًا امتد إلى أنحاء القارة السمراء؛ دعونا نقول مع أحمد شوقي أمير الشعراء: سلام النيل يا غاندي ؞ وهذا الزهر من عندي والتي قالها عندما كان يمر الزعيم العظيم بملابسه القليلة المتواضعة وشخصيته العبقرية النظيفة من قناة السويس في طريقه إلى مؤتمر المائدة المستديرة في لندن، أما النموذج الثاني فهو نيلسون مانديلا ذلك المناضل الإفريقي العملاق الذي قضى أحلى سنوات عمره وراء قضبان السجون لمدة طالت لنحو سبع وعشرين عامًا ثم خرج الرجل من الزنزانة المظلمة بقلب مضيئ ونفس راضية وشعور طيب تجاه الجميع بمن فيهم جلادوه الذين أساءوا إليه وحرموه أجمل سنوات حياته، ولقد خرج الرجل لينهي إلى الأبد السياسات العنصرية ضد مواطنيه ويفتح بابًا للمواطن الإفريقي في قيادة بلاده وإدارة شئونه وظل عملاقًا حتى الرحيل لا ينطق إلا بالحكمة ولا يفكر إلا فيما ينفع الناس ويرفض التعصب ويلفظ الكراهية ويؤمن بالإنسان سيد الكون وصانع المعجزات، ولقد ترك من بعده رصيدًا ضخمًا يعبر به عن شخصية إفريقيا ودورها الجديد في العلاقات الدولية الراهنة وعالمنا المعاصر، ولقد كان الرجل مدافعًا أمينًا عن القضية الفلسطينية مؤمنًا بحق الشعوب في تقرير المصير حاملًا رايات الحرية وسط جماهير الشعوب المختلفة في العقود الأخيرة، فإذا انتقلنا إلى النموذج الأوروبي فسوف نجد أن العملاق - شكلًا وموضوعًا – شارل ديجول هو النموذج الذي يلفت النظر سابقًا نابليون في مكانته وونستون تشرشل في عبقريته لكي يطبع اسمه على القارة الأوروبية نموذجًا مضيئًا باعتباره بطل المقاومة ضد النازي وزعيم فرنسا ورائد تحريرها في الحرب العالمية الثانية، وهو أيضًا الذي انتشلها من المستنقع الذي وضعها فيه الثوار الجزائريون فكان على يدي هذا القائد العظيم إنقاذ فرنسا مرتين إحداهما في الحرب العالمية الثانية والأخرى في الاتفاق على استقلال الجزائر وتحرير شعبها الأبي، ولقد وضع الرجل بذور استقلال السياسة الفرنسية وتميزها وسط المجموعة الغربية بدرجة من الاختلاف الإيجابي عن السياسة الأمريكية المندفعة غالبًا لذلك ظلت الديجولية شعارًا فرنسيًا لتجمع سياسي لعب دورًا كبيرًا في فرنسا بعد رحيل ديجول، ولا زلنا نتذكر كلماته في رثاء الزعيم العربي الراحل عبد الناصر خصوصًا وأن شارل ديجول كان قد اتخذ موقفًا شريفًا للغاية من الصراع العربي الإسرائيلي ومنع إمداد الدولة العبرية بالسلاح الفرنسي لأنها بدأت بالعدوان في يونيو عام 1967 ولذلك يظل اسمه مقترنًا بالكبرياء الوطني والشرف الإنساني على مر العصور فقد عاش شامخًا ورحل عظيمًا، ولقد جمعتني جلسات بالرئيس الاشتراكي الفرنسي الراحل فرنسوا متيران عندما كنت سكرتيرًا للرئيس الأسبق مبارك وكنت أتأمل ذلك الرئيس الفرنسي الرصين وأتذكر أنه كان منافسًا لشارل ديجول في الانتخابات الرئاسية في ستينيات القرن الماضي وكان ذلك يضيف لمتيران في ذهني قيمة أخرى بسبب دوره التاريخي في منافسة العملاق الفرنسي الكبير شارل ديجول الذي أبى أن يقبل النسبة التي حصل عليها في انتخابات الرئاسة الفرنسية بعد أحداث الشباب في باريس والمدن الفرنسية الأخرى في نهاية ستينيات القرن الماضي حيث قرر ديجول اعتزال الحياة السياسية إلى أن رحل بعدها بفترة وجيزة .. لقد كان عملاقًا أوروبيًا نتذكره دائمًا!
هذه شموع ثلاث احترقت لكي تضيء الطريق أمام البشرية في القارات القديمة - آسيا وإفريقيا وأوروبا - وتجاوزت تلك الشموع بضوئها حدود بلادها لكي تطبع فلسفات عميقة عندما يتحدث الناس عن فلسفة غاندي أو نضال مانديلا أو عظمة ديجول، وسوف تظل هذه النماذج الباهرة نبراسًا في السياسات الوطنية والعلاقات الدولية بل والتاريخ الإنساني كله، لقد حمل هؤلاء العظام مشاعل الحرية ومصابيح الضوء واتفقت تصرفاتهم مع أفكارهم وخرجوا بالسياسة من إطار الرياء وتشوهات الكذب وصراخ الشعارات الرنانة .. لقد رحلوا عن عالمنا ولكنهم يظهرون بين حين وآخر كومضات مضيئة لدى الإنسان في كل زمان ومكان.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 21 يناير 2020