نتداول دائمًا عبارات مكررة وأفكارًا معلبة ومن كثرة ما تعودنا عليها تستقر في أعماق ذاكرتنا وتطفو على السطح كلما أثير موضوع يتصل بتلك الأقوال أو الأفكار، ولا زلت أتصور أن القضية الفلسطينية أو الصراع العربي الإسرائيلي هو أحد النماذج الصارخة لذلك التكرار فالعبارات هي العبارات والشعارات هي الشعارات ولا يبدو أن التغيرات على الأرض تعطي مساحة لتفكير مختلف أو آراء متجددة، ولأنني دخيل على أدوات التواصل الاجتماعي الحديث فإنني أفضل متابعة ما يتصل منها بالقضايا السياسية ذات الطابع الدولي والإقليمي، ولقد لفت نظري حوار عميق بين زميلين أعتز بهما كثيرًا هما المفكر المصري العقلاني د.عبد المنعم سعيد صاحب الإرادة القوية التي قهرت أخطر الأمراض حتى شفاه الله بدعواتنا الصامتة جميعًا لكاتب سياسي وباحث مدقق مضى طوال حياته معليًا صوت العقل مبتعدًا عن الشعارات الرنانة والعبارات المكررة، وبلغ من شجاعته في مواجهة المرض أن قبل التجريب الطبي بأدوية مستحدثة حتى استجابت السماء لدعواتنا وأتم الله شفاه رغم أنه لم يتحدث يومًا عن مرضه ومعاناته وأسفاره من أجل العلاج وكنت أشعر به دون أن يتحدث وأتابع صعوده الفكري وتألقه السياسي على الساحتين الدولية والإقليمية في ذات الوقت، أما المُحاور الثاني الذي دخل الحلبة معه فكان هو أخي وصديق عمري السفير محمد أنيس الذي قضى معظم حياته في الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة وجاب العالم النامي من بنجلاديش إلى السودان ومن سوريا إلى الأردن ومن جولات في دول الخليج إلى صولات في القارة الإفريقية حتى استقر به المقام في وطنه متوجًا جهوده بدرجة سفير في الخارجية المصرية التي بدأها عندما خدمنا معًا في لندن في مطلع سبعينيات القرن الماضي، والسفير أنيس هو نموذج للموضوعية والاستنارة والتقاط رموز الحداثة والمضي وراء كل جديد وكان الحوار على صفحة أنيس الإلكترونية حول تطورات الأوضاع في المنطقة وقضايا الشرق الأوسط ولفت نظري أن الحوار عميق بامتياز قابل للترجمة المفهومة لكل العقليات المتزنة من مختلف القوميات والثقافات؛ إذ أن صوت العقل هو دائمًا صاحب الكلمة العليا والقرار النهائي، ولقد تضمنت أفكارهما الرصينة معلومات جديدة خصوصًا ما يتصل منها بأوضاع الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويقبلون العيش المشترك في دولة واحدة وكيف أن أربعين في المائة من الفلسطينيين لا يعارضون الاستمرار في هذا النمط من الحياة الذي يعطيهم جواز سفر يسمح لهم بدخول الولايات المتحدة الأمريكية ويعطيهم حرية حركة ليست متاحة لأشقائهم في الأرض المحتلة الرافضة للسيطرة الإسرائيلية، ولقد حاولت تجريد نفسي من المشاعر المزمنة التي أدى إليها التراكم التاريخي للأفكار المكررة والعبارات المرسلة حول القضية التي شغلتنا لما يقرب من قرن كامل واستغرقت منا الجهود ولا زالت وسيطرت على رؤيتنا للمستقبل على اعتبار أن الأخطار الناجمة عن السياسات العدوانية التوسعية العنصرية والاستيطانية لا زالت تمضي فيها إسرائيل مهما كانت المتغيرات حولها والمستجدات المحيطة بها، وخرجت من قراءتي الممتعة لما كتبه الزميلان - د.عبد المنعم سعيد والسفير محمد أنيس - ببعض الملاحظات أسوقها فيما يلي خصوصًا وأننا نتابع أسطورة صفقة القرن وتوابعها:
أولًا: نحن بحاجة إلى نظرة جديدة حولنا ومراجعة أمينة للتطورات التي يشهدها إقليم الشرق الأوسط في غرب آسيا وشمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط وتداعيات تلك التطورات على السياسة المصرية التي يجب أن تكون هي شاغلنا أولًا وثانيًا وثالثًا مع نظرة مختلفة للمخاطر الناجمة عن الامتداد الفارسي والتوسع التركي وسياسة الصمت الخبيث التي تتبعها إسرائيل حاليًا وهي تجني حصاد ما يحدث دون أن تكون طرفًا مباشرًا فيه ولا قوة فاعلة في أحداثه، فإسرائيل تجلس على دكة المصرف الإقليمي لحصاد أحداث المنطقة تجني الأرباح وتحقق ما تريد خصوصًا وأن السياسة الأمريكية تبدو مواتية لها كما لم تكن من قبل.
ثانيًا: لقد بدأت أقتنع بعد إصرار طويل وعناد مستمر أن مسألة الدور الإقليمي لمصر تحتاج إلى مراجعة فالدور لا يسيطر خارجيًا إلا إذا كان مبهرًا لغيره جاذبًا لسواه، ولقد اعتمد الدور الإقليمي لمصر في سنوات تأثيره على قوة الدولة المصرية وفاعلية تأثيرها الممتد في النطاقين العربي والإفريقي ناهيك عن القبول الدولي – ولو مؤقتًا - لذلك الدور، أما الأوضاع حاليًا فإنها تبدو شديدة الاختلاف إذ تحمل الدولة المصرية من الملفات المعقدة المتصلة بها مباشرة ما يجعل فكرة الدور محتاجة إلى تعديل في التصور وتركيز في الاتجاه وابتعاد عن الشعارات بل وأجازف وأقول: إن الدور المصري محتاج أيضًا إلى ما نسميه بالأفكار غير التقليدية أو الرؤية من خارج الصندوق الذي حبسنا فيه عقولنا لعقود طويلة.
إن حوار المثقفين الكبار، خبراء السياسة الواعدين، يجعلني أقول أن ما نقوم به في الداخل يجب أن يكون ترشيدًا لسياساتنا التقليدية تجاه قضايا الخارج؛ وإذا كان الرئيس الأمريكي ترامب يعلي المصلحة الأمريكية المباشرة على غيرها ويتعامل بمنطق رجل الأعمال في الحسابات والخسائر لدور بلاده خارج حدودها فإن الأولى بنا في دولة وطنية عريقة مثل مصر أن نعيد أيضًا الحسابات وأن نراجع الأفكار وأن نتوقف عن ترديد الشعارات خالية الوفاض والأفكار الجامدة التي ترسبت في عقولنا وتكلست في مواقعها دون مراجعة أو ترشيد أو تجديد!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 4 فبراير 2020