أظن أحيانًا- وليس كل الظن إثمًا- أن افتقاد القدوة التى يسير على دربها الشباب وتمثل إلهامًا للأجيال لم تعد موجودة مثلما كان الأمر منذ عدة عقود، فقد أصبح للنجومية معنى مختلف، وللشعبية دلالات جديدة، وأصبح شبابنا يشكون- عن حق- غياب القدوة وافتقاد المُثل العليا التى يمضون وراءها.. وعندما أقلب فى صفحات حياتنا أجد أن الأمر ليس كذلك، وها أنا أسوق نموذجًا لزميل رحل منذ فترة وجيزة وكان مثالًا للإنسان الراقى وواحدًا من فرسان الدبلوماسية المصرية، وأعنى به السفير رضا شحاتة، فالمعروف أنه عندما يترك شخص موقعًا مهمًّا ويبدو للبعض وكأنه مغضوب عليه، فإن (السكاكين) تأتيه من كل اتجاه لتقطيعه على مذبح الأنانية وشهوة السلطة والرغبة فى التخلص من الآخر، حتى إنه قد استقر فى أعماقنا أننا نستقبل ولا نودع ونحتفى بالقادم ونطلق له البخور ونبحث عن سيئات الذى مضى فى ذات الوقت.. ولكن الأمر عندى يختلف عن ذلك، والنموذج الذى أتحدث عنه اليوم يثير الدهشة والاحترام، لأنه كان على النقيض من تلك الصورة الكريهة لقادم جديد يمحو صورة سلفه ويهيل عليها التراب ويلعنه صباح مساء، لقد تولى السفير رضا شحاتة منصب سكرتير الرئيس للمعلومات بعد إقصائى من هذا الموقع بيومين فقط، وكان دبلوماسيًا مرموقًا خدم فى بعثات مهمة فى الخارج، وعرفته ونحن صغار حيث كنت أعمل فى إدارة غرب أوروبا، وكان هو يعمل فى إدارة شرق أوروبا المجاورة لإدارتى مباشرة، وإذا بهذا الإنسان الشهم بعد أن تولى عمله الجديد يضعنى فى الموضع اللائق ويتحدث باحترام عن إنجازاتى فيه، ويلطف من غلواء من أطاحوا بى، ويتحدث بشرف وشفافية عما قمت به من أعمال إيجابية، بل يحاول أن يلعب دور وسيط التهدئة بينى وبين بعض زملائى المتحاملين علىَّ وقتها فى مؤسسة الرئاسة، وهذا خُلق لم نعهده كثيرًا ولم نتعوّده دائمًا، لذلك كبر الرجل فى عينىّ أكثر وازددت احترامًا له وتقديرًا لشخصه، وقد كان يتعمد أن ينقل لى أحيانًا رسائل طيبة من زملائى فى موقعى السابق، بل إشارات إيجابية من رئيس الدولة أيضًا، وهذه أمور مؤثرة للغاية، لأنه إذا غضب السلطان فالأمور تبدو معقدة والكل يتجنب التعامل معك أو الحديث إليك، ولكن ذلك الدبلوماسى الطاهر كان شيئًا مختلفًا للغاية، فأكبرته واقتربت منه بعد أن ترك الموقع الذى أمضى فيه عامين فقط حيث جرى نقله سفيرًا لمصر فى موسكو، ونقلى فى ذات الحركة الدبلوماسية سفيرًا فى فيينا، وظل التواصل بيننا مستمرًا والاحترام متبادلًا، وازدادت الصداقة متانة وقوة، وعندما وصل إلى سن التقاعد عمل مستشارًا سياسيًا فى وزارة الخارجية بالبحرين، وظل هناك لعدة سنوات، وكلما ذهبت التقيته هو والصديقين السفير د. إبراهيم بدوى الشيخ، والسفير د. محمد نعمان جلال، وكأن مملكة البحرين كانت تبحث عن خلاصة مركزة من أبناء الدبلوماسية المصرية وعيّنة من أكفأ عناصرها.. والدكتور رضا شحاتة حاصل على الدكتوراه فى التاريخ السياسى من جامعة المنيا، وله كتب ومقالات منشورة، لعل آخرها كان تعليقه على مذكرات السيد عمرو موسى (كتابيه)، لأنه- رحمه الله- كان يحمل لوزير الخارجية الأسبق تقديرًا خاصًا واحترامًا شديدًا.
إننى حين أكتب عن هذا الدبلوماسى الراحل، فإننى ألفت النظر إلى أن القدوة لا تنتهى، وأن المبادئ لا تموت، ولقد ترك رحيله لوعة وحزنًا شديدين لدى أصدقائه وزملائه وكل من عرفه، ولم أكن فى القاهرة يوم رحيله أو العزاء فيه، فشعرت بألم، لأننى لم أتمكن من توديعه، بل إن وفاته كانت مفاجأة لى مثلما كانت لغيرى. ويعتبر رضا شحاتة قدوة مثالية لشباب الدبلوماسيين فى الدأب عند البحث، والمصداقية فى الرأى، والكفاءة فى رصد الأحداث. لم أره يومًا متقاعسًا عن عمل أو مخطئًا فى حق زميل أو مقللًا من شأن غيره بل كان دائمًا عنوانًا كبيرًا على الخلق القويم والنفسية التى تتسم برحابة الصدر واتساع الأفق فى إطار ذهبى من الوطنية الخالصة والولاء المطلق لمصر أُم الأوطان وأيقونة الزمان والمكان.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1468269