رحل عن عالمنا منذ أيام شخصية قومية ودبلوماسى مرموق، هو السفير طه الفرنوانى، متجاوزًا التسعين من عمره الحافل بالإنجازات والنجاحات؛ فهو الذى أنشأ واحدة من أفضل القرى السياحية، وهى قرية الدبلوماسيين بسيدى عبدالرحمن، ولطالما ناديت شخصيًا ومنذ سنوات بأن يكون الشارع الرئيسى من المدخل وعلى امتداد طول القرية حاملًا اسم هذا الرجل الذى منحنا واحدة من أفضل المنشآت السياحية فى الساحل الشمالى، وقد تحقق ذلك بعد رحيله فقط!.. وقصتى معه طويلة لأنه كان يعمل فى ستينيات القرن الماضى بمكتب الشؤون العربية بالرئاسة بعد أن كان نائبًا للأحكام فى القوات المسلحة، وكان معروفًا على الصعيد العربى فى العصر الناصرى، وربطته علاقات قوية وصداقات متينة بعدد كبير من الشخصيات من مختلف الدول العربية، كما ربطته علاقة قوية بسفير الولايات المتحدة الأمريكية الشهير فى مصر (فرانك وزنر)، حيث عملا معًا فى مطلع حياتهما فى دولة (زامبيا) بإفريقيا، وقد قام طه الفرنوانى بتصرف مثير فى ثمانينيات القرن الماضى، حيث أرسل خطابًا إلى مجلس الشعب وقتها يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية أمام الرئيس الأسبق مبارك فى نهاية ولايته الأولى، وكان الأمر غريبًا وقتها لأنه لم تكن هناك انتخابات رئاسية، ولكن استفتاء شعبى على شخص الرئيس كمرشح وحيد وفقًا لدستور ذلك الوقت، ورغم أن الكثيرين قد أخذوا الأمر على أنه دعابة، إلا أن الأمر ترك بعض الدهشة لدى الرئيس الأسبق؛ لأن الترشيح يعنى على الأقل اعتراضًا على سياسته، وانتهى الأمر فى النهاية، وعرضت الخارجية المصرية على «الفرنوانى» أن يكون سفيرًا فى السودان، فاعتذر وظل اسمه مرتبطًا لدى الكثيرين بالخلاف كمعارض دبلوماسى فى مواجهة نظام الرئيس الأسبق مبارك، ومضت الأيام، وكان ابنه محمد - السفير حاليًا - طالبًا نابهًا عندى فى الجامعة الأمريكية، وتقدم لامتحان الخارجية واجتازه مكتسحًا أقرانه بتفوق مشهود، وذات صباح اتصل بى السفير مجدى صبرى - رحمه الله - وقد كان مديرًا لأمن الخارجية، شخصية مرموقة يسعى دائمًا لقضاء حوائج الناس ويهتم بمشكلات الآخرين، وقال لى وكنت سكرتيرًا للرئيس الأسبق مبارك للمعلومات: إن ابن طه الفرنوانى نجح فى امتحان الخارجية وتصدر النتيجة الموجودة لدى جهاز أمنى كبير، وقد يتعطل إعلانها بسبب وجود الفرنوانى الابن لأن هناك تصورًا عامًا بأن الفرنوانى الأب مغضوب عليه، وطلب منى أن أعرض الأمر على الرئيس الأسبق واخترت أسلوبًا يجعل الموافقة عليه أقرب من الاعتراض فقلت له: يا سيدى الرئيس هل تتصور أن ابن طه الفرنوانى هو الأول على دفعته فى امتحان الخارجية هذا العام وكان أيضًا من الأوائل فى الجامعة الأمريكية، فرد على الرئيس فى تلقائية: بسم الله ما شاء الله سيكون سفيرًا أفضل من أبيه، بابتسامة طيبة توحى بالرضا، وكان أن اتصلت بالسفير مجدى صبرى فى اليوم التالى قائلًا: تستطيع إبلاغ الجهات التى تحتفظ بالنتيجة أن الرئيس لا اعتراض له عليها، بل يبارك نجاح محمد الفرنوانى، وأريد هنا أن أوضح أن طريقة العرض على الحكام يجب أن تكون فى غاية العدل والموضوعية والتوازن، وأن تحكمها المصالح العليا للبلاد دون ميل فى أى اتجاه، لأن أسلوب العرض يتحكم أحيانًا ولو بدرجة قليلة دون أن نشعر فى قرار ولى الأمر، ولهذا فإن ضمير من يعرض عليه يجب أن يكون مستيقظًا ولا تشوبه شائبة، ها أنا أتذكر هذه القصة بمناسبة رحيل ذلك النجم الذى هوى، وأعنى به طه الفرنوانى بعد أن أتم رسالته وأكمل واجباته وكان ابنًا بارًا لهذا الوطن، وتبدو قيمة السفير الراحل فى التعددية التى كان يمتلكها من اهتمام بالشؤون العربية والإفريقية إلى رعاية للمصالح الفئوية لزملائه وتبنى مشروعاتهم التنموية، فضلًا عن تواصل مستمر مع عدد كبير من الشخصيات والرموز، وأتذكر مكالماته لى فى الصباح الباكر أحيانًا والتى استمرت حتى سنوات قليلة مضت ليعلق على أحد المقالات مضيفًا معلومة أو معترضًا على رأى بأدبه الجم وخلقه الرفيع.. لقد كان رحمه الله ابنًا بارًا للدبلوماسية المصرية، وقانونيًا واعيًا، وشخصية دمثة الخلق حسنة المعشر يسعد بها كل من عرفها عبر السنين.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1470523