يعد الدكتور مراد وهبة واحدًا من أساتذة الفلسفة الكبار الذين اختاروا طريقًا محددًا وتمسكوا بالمواقف من البداية حتى الآن، فهو مفكر من طراز رفيع ارتبط اسمه تاريخيًا بفلسفة ابن رشد الذي حمل لواء الفلسفتين الغربية الأوروبية و الإسلامية العربية لذلك فإن الأصوليين على مختلف درجاتهم يناصبون مراد وهبة العداء وينظرون إليه نظرة مغلفة بالريبة والشك، والرجل واضح كالكتاب المفتوح فمن يقرأ له مقالًا أو دراسة سوف يكتشف أنه أمين مع نفسه متسق مع فكره، ولقد عانى كثيرًا في مسيرته العلمية وأغلقت أمامه الأبواب في مراحل متعددة من حياته ولكنه انتصر في النهاية عندما توجته الدولة المصرية بأرفع جوائزها على الإطلاق وهي جائزة النيل في العلوم الاجتماعية التي تضم بين طياتها الفلسفة أم العلوم جميعًا، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون مراد وهبة قلقًا من الأصولية الدينية وقلقًا أيضًا من الأصولية القومية وهو يظن بحق أن حركات التحرر الوطني وفي مقدمتها حركة الشعب الفلسطيني لا يجب أبدًا أن تخلط مطالبها المشروعة بحجج دينية أو أفكار أصولية؛ لأنها تضع نفسها في هذه الحالة داخل ذات الخندق الذي تتمترس فيه الحركة الصهيونية القائمة على أصولية دينية وتعصب ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وكلما التقيت الدكتور مراد وهبة شعرت أنني أمام شخصية أسطورية شكلًا وموضوعًا وأدركت أن وراء قسمات وجهه وشعرات رأسه قصة كفاح طويلة قادها في كل الظروف، وما أكثر المؤتمرات الدولية والدراسات الفلسفية التي كان هو أحد نجومها، وما أكثر المحاضرات التذكارية التي كان هو صاحبها، وما أكثر الصالونات الفكرية التي كان هو فارسها لذلك فإنني أشعر دائمًا بتعاطف شديد معه بسبب قراءته المتفردة لتاريخ الفلسفة ورموزها الكبار واستقلاله في الرأي وصراحته في طرح ما يعتقده ويؤمن به، ولقد تعامل في حياته دون تعصب مع رموز من الأزهر الشريف ومع مفكرين إسلاميين وهو في كل الأحوال المخلص لفلسفته، الأمين على تراث ابن رشد، العارف بظروف المنطقة، ورغم أنه أستاذ أساتذة الفلسفة إلا أنه لا يحلق في الفراغ ولا يعيش في برج عاجي بل إن قدميه دائمًا على الأرض في كل الأحوال حتى لو حلق فكره في عنان السماء، وما دمنا نتحدث عن مراد وهبة حيث فرضت مسألة الأصولية نفسها ونحن بصدد الحديث عن فيلسوف عاش مكافحًا لها منددًا بمخاطرها فإننا نطرح الملاحظتين التاليتين:
أولًا: إن الأصولية الدينية قد أفرزت مشروعين كبيرين منذ بداية القرن العشرين حتى الآن وهما المشروع الصهيوني الذي يستخدم العقيدة اليهودية منذ بروزه على يد (هيرتزل) في مؤتمر (بازل) مع نهاية القرن التاسع عشر، وعلى الصعيد الآخر فإن المشروع الثاني هو ميلاد جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 على يد الشيخ حسن البنا مرادفًا لأصولية دينية مستمدة من العقيدة الإسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية بسنوات قليلة، ولو تأملنا المشروعين اليهودي الصهيوني والإسلامي الإخواني لاكتشفنا أن كل ما نشهده في المنطقة من صراعات ومواجهات هو نتاج لهما رغم اختلاف كبير في المحتوى بين الفكرين والعقيدتين ولكن الاتفاق على المنهج الأصولي يجعلهما محل مقارنة أحيانًا، فالحركة الصهيونية نكبت المنطقة على امتداد العقود الأخيرة كما أن جماعة الإخوان المسلمين هي الأم الشرعية للإسلام السياسي بما تمخض عنه من تنظيمات متطرفة يمارس بعضها الإرهاب الدموي ويمارس بعضها الآخر التعصب المتشدد.
ثانيًا: إنني أصنف الفاشية والنازية كحركات أصولية أيضًا تحت مظلة من الأصولية الدينية تعتمد على المسيحية في جوهرها الداخلي حتى رفع بعضها شعار الصليب المعقوف تأكيدًا للعلاقة الصامتة بين تلك الحركات والتطرف المسيحي رغم أن تلك الديانة تدعو إلى المحبة وتنبذ العنف ولكن الذين يستغلون جوهر العقيدة يستطيعون توجيهها على النحو الذي يريدونه، ولذلك فإن الأصولية الدينية ليست هي جوهر العقائد السماوية الثلاث ولكنها امتداد لها، ولا أنسى من ذكريات حياتي سنوات أربع قضيتها في الهند أنني كنت أشعر بالأصولية الهندوسية وهي التي تبدو مزيجًا بين الدين والقومية وتعطي شعورًا بتعصب دفين – أحيانًا - ضد الأقلية المسلمة عقابًا لها على أن وجودها هو الذي أدى إلى تقسيم القارة الهندية كما أنهم يرون أن الدولة المغولية الإسلامية التي سيطرت على الحكم في الهند لفترة طويلة هي المسئولة عن أن معظم الآثار الهندية إسلامية الطابع؛ وبذلك نجد أن الأصولية ليست قاصرة على دين بعينه أو قومية بذاتها ولكنها شعور جماعي متأصل يؤدي إلى توجه جماعي متطرف يرفض الآخر ولا يعترف بالغير.
هذه السطور هي هوامش على دفتر السيرة الفكرية لأستاذ الفلسفة الكبير مراد وهبة الذي عرفته عن قرب، وتابعت كتاباته باهتمام، وحضرت بعض لقاءاته طلبًا للمعرفة واستزادة من الفكر المستنير الذي يفتح أبوابًا أمام حداثة العصر وتقاليده الجديدة .. إن مراد وهبة وهو يمخر عباب التسعينيات من العمر يمثل أيقونة فكرية وظاهرة فلسفية نقف أمامها باحترام وتقدير لأنه آثر النظرة الشاملة والرؤية المتكاملة عندما اختار أم العلوم سبيلًا للمعرفة وطريقًا للعلم لأن الفلسفة تمثل بحق مجموعة الجذور الكبيرة لفروع العلم وأغصان المعرفة وأوراق الفكر، دعونا نحيي هذا الفيلسوف الكبير أو ابن رشد القرن العشرين جزاء ما قدم لتلاميذه وقرائه ومريديه!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 18 فبراير 2020