تحدث عبدالله بن المقفع، منذ أكثر من ألف عام، متباكيًا على الفضيلة، ناعيًا المروءة، قائلًا: إن أهل الزمان الذى مضى أخذوا معهم القيم الراقية والأخلاق الحميدة، وإن الأجيال الجديدة لا جدوى منها ولا فائدة، فهى لا تعترف بالالتزام الخلقى أو احترام الكبير، كما أنهم يرفضون النصيحة، ويتصرفون برعونة، كان هذا مضمون كلام «ابن المقفع»، وقد مضت عليه قرون عديدة، ومازال كل جيل يكرر نفس المقولة ويتحدث عن ذات الأمر، وأتذكر أنه بعدما قامت ثورة يوليو عام 1952 كان أبناء القرية يتباكون على أيام المغازى باشا، صاحب آلاف الأفدنة من الأطيان فى محافظة البحيرة، ونظروا للإصلاح الزراعى، الذى صدر من أجلهم، بريبة وشك، وظل هواهم لسنوات طويلة مُعلَّقًا بالماضى، فى حنين لا يتوقف وشعور دافق لسان حاله يقول: «رُبَّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه»، ولذلك فإننى أظنه شعورًا موروثًا وتقليدًا أصيلًا ليس لدى المصريين وحدهم ولكن بين سائر الشعوب ومختلف الأمم، فالحنين إلى الماضى متجذر فى الأعماق يرتد بصاحبه إلى سنوات مضت وأحداث كان يشكو منها، بل يثور عليها، ثم إذا هو بحكم الرغبة فى أن يستعيد سنوات عمره التى ذهبت نراه يلهث وراء ما مضى، ويلوك ذكريات الزمن الغابر الذى طالما شكا منه، وهذه مسألة تحتاج إلى التأمل، وتؤكد دائمًا أن الإنسان يفكر بلغة الماضى، ويجْتَرّ أحزانه من خلال أفراح مضت أو أحداث عبرت، وهو يتصور غالبًا أن أيامه المقبلة أقل سعادة من أيامه الماضية، فالتعلق بالماضى له تعبير يسميه الغربيون «نوستالجيا»، فالشيخ يحن إلى أيام شبابه، والمريض يحن إلى فترات فتوته، ومَن تراجع رزقه يفكر فى سنوات «البحبوحة» كما يتخيلها، وكثيرًا ما يُذكِّر المرء الناس بأنهم كانوا يئِنّون ويضجرون ويشتكون، فيكون ردهم: بلى، ولكنها كانت أيامًا حلوة وسنوات سعيدة، وحقيقة الأمر أن ذلك محض خيال يغذيه الشعور بفوات الزمن ومرور الأيام، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولًا: إن كل جيل يزعم لنفسه مزايا على حساب الجيل اللاحق، فيقف الأب أمام ابنه متباهيًا بتفوقه الدراسى والتزامه الأخلاقى، ويعلم الله أن الأب كان طالبًا فاشلًا، ولم يعرف الالتزام يومًا، ولكنه إدراك يتقمص البشر بغير حق، ويجعلهم يتحدثون عن أوهام لا وجود لها وأفكار هى محض خيال، وكل جيل يتصور نفسه أنه هو الجيل المعلم الذى يُرْسِى القواعد ويصنع التقاليد ويربى الأجيال التالية وفقًا لأحلامه أو أوهامه إذا شئنا الدقة، وللإمام على، رضى الله عنه، مقولة خالدة يدعو فيها إلى أن نربى أولادنا لغير زماننا، وهذه فلسفة ذلك الحكيم، الذى ترك تراثًا ثريًا من الحكمة الخالدة والفكر العميق.
ثانيًا: إن المقارنة ظالمة بين الأجيال لأننا لا نُثبِّت كل العوامل، فهناك أمور تتغير وحقائق تتطور، كما أن التكنولوجيا تضيف بُعدًا جديدًا لكل جيل وتعطيه أدوات لم تكن متاحة لسواه، كذلك فإن لكل عصر رموزه، ولكل وقت شخوصه، وليس صحيحًا أن المقارنة المجردة تعطى نتيجة دقيقة لأننا لا نستطيع تثبيت العوامل الأخرى، بل نمضى وراءها بغير تمحيص أو تدقيق، ونتصور دائمًا أن الجيل الذى يبنى لابد أن يكون هو الجيل الذى يجنى، وهذا غير صحيح، فاستمرار الحياة يقوم على سلسلة متصلة تبدأ كل حلقة منها من حيث انتهت سابقتها، ولا يمكن اختزال الزمن فى فكر جيل محدد أو أسلوب الحياة فى فترة بذاتها.
ثالثًا: إن هناك أجيالًا محظوظة بعطاء من القدر يجعلها تعيش فترات استقرار وسلام ورخاء، وأخرى تقابلها غيوم وسحب وأعاصير، وأنا أتذكر أننى عندما تخرجت فى الجامعة عام 1966 لم تمضِ إلا شهور قليلة وجاءت نكسة يونيو بكل ثقلها على القلب العربى والوجدان المصرى، وشعرت وقتها ألّا مستقبل لى أو لرفاقى فى ذلك الحين، وكانت سنوات صعبة بالفعل ما بين هزيمة 1967 وانتصار 1973، ولكن الذى حدث أن الحياة مضت وأن شراع الأمل شد قارب النجاة إلى شاطئ الأمان، وعاشت مصر وظلت منارة رغم كل الظروف، ورائدة رغم كل العقبات، وقائدة رغم ما واجهته من أزمات ومشكلات وتحديات، فالحياة تستمر، وفلسفة الكون أقوى من ثرثرات البشر أو أحلام اليقظة.
إن الحنين إلى الماضى هو جزء لا يتجزأ من المكون النفسى للإنسان، ويجب أن ننظر إليه باعتباره واحدًا من معطيات التاريخ وفلسفات الحياة، فالكون يمضى والشعوب تعيش والأمم لا تموت.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1584678