كتبنا في موضوع سد النهضة على امتداد السنوات الأخيرة وتحدثنا عن ملابسات إنشائه والكيدية السياسية الواضحة في توقيت بنائه كما أسرفنا في البحث عن الحلول؛ ولكن التعنت الإثيوبي قد حسم الأمر في اتجاه مختلف بعد أن كانت بوارق الأمل توحي بنجاح وساطة الحكومة الأمريكية والبنك الدولي ولكن حكومة أديس أبابا أسرعت بإطفاء شعلة الأمل بل وقاطعت المحادثات رغم وجود الطرف الأمريكي فيها، وذلك له تفسيران: الأول هو أن إثيوبيا قد فوجئت بأن الحكومة المصرية جادة في مسعاها لإنهاء الأزمة أو حلحلتها على الأقل فكان عليها أن تبادر بهذا التصرف الانسحابي غير اللائق لأنها لا تريد في الحقيقة تسوية الموقف، أما التفسير الثاني فهو أن هناك قوى إقليمية مرتبطة تاريخيًا بالدولة الإثيوبية منذ عصر سليمان وداوود وأن هذه القوى قالت لأديس أبابا: لا داعي للاستعجال فنحن وأنتم وغيرنا نريد من مصر تنازلات محددة يتصل بعضها بتطورات القضية الفلسطينية وصفقة القرن ويرتبط البعض الآخر بالرغبة في إضعاف مصر ذلك الخصم التاريخي الذي قاد الحرب ثم صنع السلام، فموضوع سد النهضة له جذور بعيدة ولا يجب التعامل معه بسطحية فهو متلامس مع السياسة الأمريكية في إفريقيا ومتسق مع الأطماع الإسرائيلية في الأرض والمياه حتى أن الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية وفي مقدمتهم هيرتزل كانوا يتغزلون في مياه النيل ولا يخفون أطماعهم بالوصول إليها؛ ولذلك فنحن بصدد موقف لم يولد أمس ولكنه يمتد لعدة عقود قد تتجاوز قرنًا كاملًا، وهنا أطرح الملاحظات التالية:
أولًا: إننا قللنا من حجم المشكلة التي بدأت مطروحة مع نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي وتوهمنا أن ما يتردد هو حديث مكرر لا يجب التعويل عليه أو الاهتمام به وأفرطنا في الثقة بأننا قادرون على الإجهاز على المشروع في بدايته، ولم يكن ذلك تحليلًا دقيقًا ولا تفكيرًا سليمًا؛ إذ الأفضل في مثل هذه الحالات أن يكون اللعب وفقًا لأسوأ السيناريوهات وليس أسهلها، وأنا أحمّل معظم وزراء الري المصري في العقود الأخيرة مسئولية ما وصلنا إليه الآن على نحو وضعنا في مأزق كنا نستطيع الخروج منه في مناسبات سابقة؛ أهمها يتمثل في الحلول التنموية المشتركة مع إثيوبيا ودول الجوار كما كان يمكن أن تقدم مصر مبادرات تخلق شبكة مصالح مشتركة بيننا وبين تلك الدول خصوصًا إثيوبيا ولكننا اكتفينا بسياسات موسمية تنشط أحيانًا ثم تهدأ دائمًا.
ثانيًا: إن العلاقات المصرية السودانية هي واحدة من الألغاز التي لا يصعب فك رموزها على امتداد العقود الأخيرة فحساسيات الأشقاء في الخرطوم متجذرة كما أن رفض الأجيال الجديدة للدور المصري الذي لا تعرفه قد ترك هو الآخر بصمات سلبية على العلاقات بين القاهرة والخرطوم، ولقد كان موقف السودان منذ بداية المحادثات في موضوع سد النهضة هو تعبير عن قلق كامن وود مفقود فضلًا عن الوهم الذي سيطر على أشقائنا في السودان من أن سد النهضة سيكون في صالحهم مياهًا وكهرباء ولتذهب مصر إلى الجحيم! فالأمر لم يعد يهم الأشقاء في الدولة التوأم كما أنه قد جرت مياه كثيرة تحت الجسور القائمة بين شطري وادي النيل وتوارت العواطف الجياشة لتظهر المصالح المتضاربة واضعين في الاعتبار سنوات حكم الجبهة الإسلامية بقيادة عمر البشير امتدادًا لفكر الراحل حسن الترابي في العقود الثلاثة الأخيرة.
ثالثًا: إن المفاوضات فن الأخذ والعطاء وما لم يكن لدينا ما نقدمه فلن نحصل على ما نريده، إن طريقًا يربط إثيوبيا بالمواني المصرية في البحر الأبيض كان يمكن أن يكون تجسيدًا لارتباط طويل المدى في المصالح المشتركة التي كان يمكن أن تجعل من الأفكار المتصلة بالسدود الإثيوبية أمرًا لا مبرر له على اعتبار أن سياسة الكل يربح كان يمكن أن تسود بين الطرفين، وفي ظني أن المشكلة لم تعد هي فقط المدة الزمنية لملء السد ولكن لأن التفاوض الذي جرى والقرار الإثيوبي بوضع مصر أمام الأمر الواقع إنما يمثل سابقة خطيرة سوف يكون لها تبعاتها ما لم يظهر المصريون قدرًا من الحزم ورباطة الجأش والاستعانة بكل الأشقاء والأصدقاء؛ خصوصًا وأنني عاتب على بعض دول الخليج أنها لم تدعم مصر في موضوع سد النهضة وكانت تستطيع ذلك بما تملكه من (كروت) الاستثمارات والتدفقات النقدية التي حصلت عليها حكومة أديس أبابا في السنوات الأخيرة، وإذا تخلى البعض عن الحقيقة الكبرى في محنة العبث بالمياه فكأنما لا يريدون للكنانة استقرار الحياة.
إنني أزعم أن لدى مصر أوراق يمكن أن تتعامل بها مع التعنت الإثيوبي أولها الاستعانة بالصديق الأمريكي وثانيها الضغط على الشريك الإسرائيلي؛ إذ أن اتفاقية السلام الموقعة في 26 مارس عام 1976 تنص صراحة على ألا يقوم أحد الطرفين بعمل عدائي ضد الطرف الآخر، ونحن نظن – صادقين - أن الدولة العبرية تستطيع أن تكبح جماح الدولة الإثيوبية لأسباب تاريخية، ودينية، وسياسية واقتصادية قبل ذلك كله، كما أن في مقدورنا تحريك البنك الدولي لكي يكون داعمًا للتسوية العادلة التي شارك في آخر المفاوضات المتصلة بها، بقي أن نقول أن تعطيش الشعوب وإدخالها مراحل الشح المائي هي جريمة كبرى تسمح للطرف المعتدى عليه بأن يسلك كل الطرق الدبلوماسية وربما غير الدبلوماسية أيضًا في تحقيق التوازن بين المسار التنموي لإثيوبيا والتدفق النهري لمصر وهو أمر يعتمد على حقوق تاريخية واتفاقيات دولية، وليدرك أشقاؤنا في أديس أبابا أن الموت حربًا أخف وطأة من الموت عطشًا.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 17 مارس 2020