رأيته فى الشهور الأخيرة فى مناسبتين؛ كانت الأولى هى تكريم اسم الراحل الدكتور على السمان فى دير معهد الآباء الدومنيكان والثانية فى المؤتمر الأخير للأزهر الشريف، وبدا لى الرجل شاحب الوجه يواجه المرض الأخير فى شجاعة وصبر ويبدو تمسكه بالحياة هو خط الدفاع الأخير له أمام الموت، ومحمود حمدى زقزوق فى رأيى هو امتداد مباشر لمدرسة الدكتور محمد البهى، أستاذه ووزير الأوقاف فى العصر الناصرى، وكلاهما نتاج للتزاوج بين الأزهر الشريف والمدرسة الألمانية فى الفلسفة وأزعم أن الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب هو أيضًا تلميذ مباشر للراحل الدكتور زقزوق، ولقد عرفت وزير الأوقاف الأسبق عندما كان ملء السمع والبصر فى مصر وخارجها، وقد زارنى وأنا سفير فى فيينا عدة مرات عندما كان مدعوًا من جهات ألمانية أو نمساوية لإلقاء محاضرات رصينة باللغة الألمانية حول الفلسفة الإسلامية وعلاقتها بالنظريات الحديثة وكانت محاضراته تلقى قبولًا كبيرًا فى أوساط الأوروبيين الناطقين بالألمانية، ولكن زيارته الأهم كانت عندما أوفده الإمام الأكبر السابق ومعه أستاذ علم الحديث صاحب اللسان الفصيح، الدكتور أحمد عمر هاشم، ليقوما بالتوقيع على إنشاء الأكاديمية الإسلامية فى العاصمة النمساوية، ولقد اقتربت كثيرًا على امتداد العقود الأخيرة من الدكتور زقزوق وبهرنى علمه وتواضعه وبساطته، لأنه كان يمثل وجهًا مستنيرًا للأزهر الشريف، ولقد شاركت معه ونخبة من الأزهريين وكبار المثقفين- مسلمين ومسيحيين- فى التحضير لوثائق الأزهر الشريف، برئاسة الإمام الأكبر الطيب والتى صاغها الناقد الأدبى الكبير د. صلاح فضل، وكان ذلك كله فى أعقاب أحداث 25 يناير وأهمية بروز خطاب دينى دعوى يوائم ظروف التغيير وفترات التحول وكان زقزوق هو صوت العقل والدين معًا له رأى صائب ورؤية راجحة، وأتذكر اشتباكًا جرى بينه وبين رجل دين امتطى صهوة جواد الإخوان فور اقترابهم من السلطة واستبدل بزيه المدنى لباسًا أزهريًا، مستغلًا قربه من الإمام الأكبر لكى يبشر بأفكار لا يزال ينفث بعضها حتى الآن من خلال موقع قومى خطير، وكانت ردود الدكتور زقزوق يومها على استفزازات ذلك الشيخ مهذبة كعادته هادئة كطبيعته وكان ذلك دأبه طوال حياته، ولا ننسى له مشاركته الفعالة فى إنشاء بيت العائلة باقتراح من الإمام الأكبر بعد حرق كنيسة فى العراق وتوالى أحداث الفتن الطائفية فى مصر وخارجها فكان بيت العائلة هو صوت العقل الذى شغل الدكتور زقزوق فيه موقع الأمين العام، والأزهر، إذ ينعى ومعه الأمة الإسلامية بأسرها رحيل ذلك العالم الجليل الذى اقترن بسيدة ألمانية فاضلة ظلت رفيقة حياته حتى النفس الأخير ولهما ابنة واحدة تعيش فى ألمانيا وتحمل درجة علمية رفيعة، امتدادًا لسيرة أبيها المتميز دائمًا، ولا أنسى أبدًا دعواته السنوية لى لكى أكون متحدثًا فى أمسيات الحسين الرمضانية أمام مسجد سيد الشهداء وكيف كان يرافقنى فى كل مرة ويقدمنى لجمهور الحاضرين تقديمًا سخيًا وهو تقليد يواصله وزير الأوقاف الحالى، الدكتور محمد مختار جمعة، المعروف بشجاعة الرأى والانتصار لصحيح الدين، ولا شك فى أن رحيل الدكتور محمود حمدى زقزوق هو خسارة كبيرة للإسلام والمسلمين وغير المسلمين أيضًا، فلقد كان للرجل صلات طيبة برجال الدين من أهل الكتاب وكان بحق نموذجًا للوسطية والاعتدال، وأنا أتذكر عندما كنت سفيرًا فى فيينا أن زارنى وفد من مسلمى أوروبا مجتمعين ليعرضوا من خلال السفير المصرى ترشيحهم بالإجماع للدكتور زقزوق ليشغل منصب مفتى المسلمين فى عموم القارة الأوروبية، وقد اعتذر الشيخ الجليل يومها وشكر لمسلمى أوروبا- من كل الاتجاهات السياسية والمذاهب الدينية- عرضهم الكريم، وها هو يذهب إلى رحاب ربه حاملًا كل حسنات حياته، ونحن نفتقد فيه رمزًا إسلاميًا عظيمًا ذهب ولن يعود!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1865671