في تاريخ البشرية أحداث كبرى تترك بصماتها التي لا تزول لأنها أحداث مفصلية تمثل نقاط تحول جوهرية في المسيرة الإنسانية، وإذا أخذنا القرن الماضي كنموذج فإننا نتذكر الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وهبوط الإنسان على القمر ثم الحدث الدرامي الكبير باستهداف برجي التجارة في نيويورك عام 2001 لكي يأتي وباء الكورونا في عام 2020 استكمالًا لتلك الحلقة من الأحداث الكبرى التي تابعناها وعاصرنا وقوعها وعشنا في إطار بعضها، ولا شك أن هناك أحداثًا أخرى ذات أهمية كبرى ولكنها لا ترتفع إلى قيمة الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ وذكرنا نماذج لها فيما قلنا، ففي كل العصور عرفت الأوطان نماذج من الحكام وعاصرت أنماطًا من القادة الذين اتجهوا بها في مسارات مختلفة ولكن ظل الفيصل دائمًا هو مدى قبول الرأي العام العادي لتلك الأحداث وتفاعله معها وشعوره بأن ما قبلها يختلف عما بعدها، نعم إننا نتذكر أن القرن العشرين شهد اغتيال الرئيس الأمريكي جون كيندي، وهبوط الرئيس المصري أنور السادات بطائرته في مطار (اللد) بإسرائيل وإلقائه خطابه الشهير أمام الكنيست، وإذا تأملنا ضحايا الحرب العالمية الأولى ويقدرون بالملايين وضحايا الحرب العالمية الثانية بملايين أكثر فسوف نجد أن حجم الفاجعة الإنسانية كان مقبولًا في النهاية لأنها حروب والحروب ليس لها سقف ومن الممكن أن نعرف كيف نبدأها ولكن يستحيل علينا أن ندرك كيف ننهيها، أما نزول الإنسان على القمر بعد بحوث علمية مضنية شارك فيها علماء الفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات فإن الأمر يبدو ميسورًا بسبب الارتباط بالأرض وطبيعة المناخ، ولا شك أن اختيار المحاور الكبرى في التاريخ البشري هو أمر نسبي يختلف من قومية لأخرى، فالهنود يرون أن تقسيم شبه القارة الهندية هو أهم حدث جرى لهم في القرن العشرين؛ ويرى العرب أن قيام دولة إسرائيل عام 1948 هو أهم الأحداث في ذلك القرن أيضًا، بينما هناك اتفاق عام على أن أحداث معينة تستأثر بالاهتمام الدولي والقومي معًا مثل الحروب العالمية والهجمة الإرهابية على برجي التجارة في نيويورك ثم يأتي وباء كورونا ليكون حدثًا عالميًا بامتياز لأن العالم كله شهده في فترة واحدة وشارك الكل في مقاومته على نحو لم تعرفه الأوبئة السابقة من قبل، ويهمني هنا أن أشارك القارئ في بعض الأفكار:
أولًا: إن قيمة الحدث الضخم في التاريخ البشري تأتي من الفارق بين مرحلة ما قبله ومرحلة ما بعده لأن تأثير الحدث هو أهم ما يميزه وهو ما يبقى في ذاكرة الإنسانية لعقود تالية وربما لقرون أيضًا، ورغم أن بعض الأحداث بدت غامضة في وقتها مثل اقتحام طائرات لبرجي التجارة إلا أنها غيرت شكل خريطة العلاقات الدولية وسمحت باستباحة الأراضي العربية في العراق وفي غيرها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها ولذلك ثارت تساؤلات حول ذلك الحدث الضخم وتوقيته ومغزاه.
ثانيًا: لو أخذنا الحرب العالمية لأولى لوجدنا أن تداعياتها قد انعكست على التنظيم الدولي وأدت إلى ميلاد عصبة الأمم وفقًا للمبادئ الشهيرة للرئيس الأمريكي حينذاك (ويلسون)؛ بينما تمخضت الحرب العالمية الثانية بعد انتصار الحلفاء وهزيمة المحور عن ميلاد منظمة الأمم المتحدة وخروج مشروع (مارشال) إلى النور على نحو يؤكد الدوافع الاقتصادية للحروب وضرورة معالجتها للقضاء على أحد الأسباب الأساسية للصراعات الدولية والذي يكمن في العامل الاقتصادي والصراع على الموارد الطبيعية والبشرية.
ثالثًا: إن ميلاد مشروعين كبيرين يستندان إلى دعاوي دينية وأعني بهما المشروع الصهيوني الذي تبلور على يد (هرتزل) في (بازل) مع نهاية القرن التاسع عشر؛ ومشروع الإسلام السياسي على يد الشيخ حسن البنا في مدينة الإسماعيلية بمصر عندما ظهرت جماعة الإخوان المسلمين، ولقد عرف العالم خلال القرن العشرين وحتى الآن تأثير هذين المشروعين الكبيرين وأحدهما يستند إلى عملية تطويع للديانة اليهودية بينما يستند الثاني إلى عملية استخدام واسعة للدين الإسلامي طريقًا للوصول إلى السلطة، وكلا المشروعين يبدو في نظرنا عدوانًا على السلام والاستقرار لا في منطقة الشرق الأوسط وحدها ولكن في العالم كله فهاتان الفكرتان المحوريتان أثرتا على مجريات الأمور في العالم كله.
رابعًا: لا تزال هناك أحداث ذات طابع فردي في إطار الدولة الوطنية ولكن أصداءها كبيرة، فاغتيال (كيندي) كان رسالة واضحة من اليمين الأمريكي الذي يسعى للسيطرة على مقاليد الأمور ومستقبل العالم من خلال الإدارة الأمريكية المؤثرة والفعالة، كما أن مصرع الأميرة (ديانا) كان إشارة مستترة لحال القصر الملكي البريطاني والانشقاقات عنه كما رأينا بعد ذلك، وإذا لاحظنا أحداثًا كبرى أخرى فيجب أن نضع في الحسبان تأثيرها الداخلي والخارجي معًا.
خامسًا: إن سقوط الخلافة الإسلامية وانهيار الدولة العثمانية هو حدث هام في تاريخ العالم الإسلامي كما أن سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وانهيار الكتلة الشرقية هو تعبير آخر عن نقلة نوعية في مرحلة من مراحل التغيرات التاريخية الكبرى، ومنذ سقوط حائط برلين وقد أصبحت أوروبا الموحدة كيانًا مؤثرًا في العلاقات الدولية سياسيًا واقتصاديًا ولكن ما جرى مع وباء كورونا أضعف إلى حد كبير التضامن الأوروبي بل وانعكس سلبيًا على منظومة الاتحاد الأوروبي ذاتها.
هذه قراءة عامة لنماذج من أحداث محورية كبرى وأفكار عظمى لعلنا نذكر منها الماركسية والدارونية والفرويدية، وغيرها من نماذج الأفكار الضخمة من ذات العيار الثقيل في تاريخ البشرية!
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 28 أبريل 2020.