إن المصريين من أقل الشعوب استجابة للتغيير الاجتماعي المفاجئ لأنهم شعب تراكمت لديهم التقاليد وتعاقبت عليهم الحضارات وامتزجت بينهم الثقافات في سبيكة نادرة تجعلهم شديدو التمسك بها والارتباط بالبيئة الفكرية والمناخ العام الذي تعيش فيه وتزدهر معه، ولذلك رأى كثير من الخبراء أن الشعب المصري في جوهره عصي على التغيير متمسك بثوابت هويته، فالتاريخ الاجتماعي للمصريين يشير بوضوح إلى عناصر الثبات في الشخصية المصرية، ويكفي أن نتأمل تاريخنا الطويل من مصر الفرعونية إلى اليونانية والرومانية مرورًا بالعصر القبطي وصولًا للفتح الإسلامي الذي تمثل فيه الدولة الفاطمية مستودعًا كبيرًا للقيم والعادات الدينية والاجتماعية للمصريين، ولا ننسى تأثيرات الفترة المملوكية في التكوين النفسي لشعب الكنانة وصولًا إلى عصر محمد علي الذي اقترن ظهوره بصدمة الحملة الفرنسية التي أصابت الوجدان المصري بحالة من الدهشة انتهت بالصحوة التي يستحيل إنكار وجودها، وكان ميلاد الدولة المصرية الحديثة إيذانًا بالاحتكاك المباشر مع الغرب الأوروبي تحديدًا فضلًا عن حالة التداخل بين عناصر الاشتباك من أثر المواجهة بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية المسيحية، وإذا كان الخديوي إسماعيل هو الذي واصل مسيرة التحديث الكبرى في تاريخ مصر الحديثة إلا أن أسماء مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وصولًا إلى العقاد وطه حسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وغيرهم هم المسئولون عن تشكيل الوجدان المصري والخروج به من شرنقة بقايا العصور الوسطى إلى طفرة القرن العشرين، وواكبت ذلك حركة ثقافية في الفنون التشكيلية والنحت، في الموسيقى والغناء، في الأدب والشعر، في المسرح والسينما وكل مظاهر الحياة التي وفدت على الوطن في ذلك الوقت، ويهمني هنا أن أسجل بعض الملاحظات التي تشير إلى المؤثرات التي نجم عنها ما شهدته الأجيال الأخيرة من الشعب المصري وحالات الصعود والهبوط والانتصار والانكسار والنجاح والفشل والإنجاز والإخفاق حتى تكونت لدينا تراكمات طبعت نفسها على شكل الحياة وصورة المستقبل، ومنها:
أولًا: يتميز الشعب المصري بحيويته الدافقة، وروحه الساخرة، ويقظته الشديدة وربما بذكائه الذي يصل إلى حد (الفهلوة) وهي كلمة لا ترجمة لها في اللغات الأجنبية لأنها مزيج من الفهم السريع والتصرف الأسرع على غير أساس حقيقي، ورغم هذه الصفات فإن المصري لديه قدر كبير من الجمود والتمسك بالقديم ورفض التغيير الذي غالبًا لا يدرك تفاصيله، وقديمًا قالوا المرء عدو ما يجهله وينطبق ذلك تمامًا على المصريين، وقد ظهر واضحًا في مقاومة الأسرة المصرية لتطوير نظام التعليم الذي أعترف أنه يحمل بعض المصاعب في بدايته ولكنه يمثل الطريق الصحيح نحو المستقبل، والمصريون مغرمون في الغالب بردود فعل الغير في تصرفاتهم التي لا تخلو من الميول الاستعراضية ويبدو ذلك في تقاليد الزواج والوفاة وما بينهما، فالمصري شغوف بألا يخرج عن النص الاجتماعي حرصًا على مكانته.
ثانيًا: يجب أن ندرك أن دول الحضارات القديمة مثل الصين والهند ومصر وغيرها تحمل جينات حضارية مع إرث اجتماعي متأصل يصعب الخلاص منه أو الخروج عليه، ولقد عشت سنوات في الهند في مطلع شبابي ورأيت التمسك الشديد بالتقاليد حتى ولو كانت لا تستقيم مع روح العصر، وأدركت أن الأمة الهندية تعيش على ركام ضخم من الأفكار الموروثة والتقاليد التي تعود إلى قرون مضت شأنها في ذلك شأن المصريين في القرى البعيدة والمناطق الأكثر عددًا والأشد فقرًا، وقد لاحظت في الهند أن الثقافة الهندوسية لا تمثل دينًا فقط ولكنها نمط في الحياة وسلوك في التفكير.
ثالثًا: إذا كنا بصدد الحديث عن الحالة المصرية فإننا ننبه إلى أن التدين ظاهرة متجذرة بين المسلمين والمسيحيين على السواء، فالمسلمون مولعون بأداء فريضة الحج وتكرار آداء العمرة بينما الكنيسة القبطية لا تزال محافظة على صورتها الأولى وأعمدتها الأساسية لذلك فإن التدين متغلغل في أعماق المصريين عبر العصور، والمصري – مسلمًا أو مسيحيًا أو حتى يهوديًا- ينتفض عند المساس بدينه أو الانتقاص من مكانة عقيدته وليس يعني ذلك أن المصري يتبع جوهر دينه الحقيقي، فهناك فارق بين المضي وراء جوهر الدعوة واتباع الفضيلة والبعد عن الخطايا وبين التدين الظاهري الذي ينصرف إلى الطقوس دون أعماق الرسالة السماوية؛ ولذلك يجري استخدام الدين في مصر كفزاعة لتعويق التقدم ومنع التغيير وتأكيد دور المرأة مع أن الأديان السماوية هي ثورات اجتماعية وأخلاقية انتقلت بالبشر إلى مرحلة أفضل.
رابعًا: إن من ينظر إلى خريطة الوادي والدلتا والصحراء على الجانبين والبحرين اللذين يحيطان بالخريطة المصرية حيث يمتدا نحو شبه جزيرة سيناء سوف يكتشف أن هناك عقدًا غير مكتوب بين المواطن والسلطة، بين الشعب والحاكم، ولذلك فإن ثورات المصريين تندلع فجأة ودون مقدمات طويلة لأن قدرة المصري على التخزين وصبره الشديد تجعلانه قادرًا على الانتظار طويلًا؛ لهذا فإن مفهوم التغيير لا يرتبط لديه بالإصلاح التدريجي ولكنه قد يأتي بالانتفاضة الحادة أو الثورة المفاجئة.
خامسًا: سوف يظل التعليم هو بوابة التغيير وطريق المستقبل، وما لم نتمكن نحن المصريين من استكشاف خريطة الغد وصولًا إلى تعليم أفضل نستعيد به مكانتنا الدولية والإقليمية فلن يكون هناك بديل عن التراجع أو الجمود، فالتغيير مرتبط بالتعليم والإصلاح كنتيجة له ولن يتقدم المجتمع إلا بالاعتماد على ركيزة المعرفة واحترام الأسس التي يقوم عليها التعليم العصري الحديث لفتح أبواب الديمقراطية ونوافذ التنمية على مصراعيهما.
هذه خواطر تتصل بقضية التحول الاجتماعي في بلادنا وهي في ظني أخطر القضايا على الإطلاق لأنها هي التي تحدد سلوك الإنسان وعلاقاته مع غيره في إطار يتسم بالمسئولية ولا يعرف التجاوز ولكنه يؤمن فقط بالمصالح العليا للبلاد.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 12 مايو 2020.