كان الكاتب المصرى الكبير محمود السعدنى مغرمًا بأمرين، أولهما الاستماع إلى قراء القرآن الكريم من مختلف الأنحاء، والأمر الثانى كان غرامه بمباريات كرة القدم، وكانت هاتان الهوايتان تسيطران على أحاديثه وتعطيه الحلاوة والطلاوة التى عرفناها، ولقد قضيت شخصيًا سنوات فى صحبته بالعاصمة البريطانية عندما كان طريدًا من مصر فى عصر الرئيس الراحل السادات، وقد كان للسعدنى مريدون أزعم أننى أحدهم بالإضافة إلى شخصيات من كل المستويات أتذكر منهم الآن الكاتب والصحفى والمؤرخ أحمد الجمال، كما أن عددًا من القيادات العربية كانت مغرمة بالسعدنى وأحاديثه، ولقد تعرفت به من خلال الأستاذ أحمد بهاء الدين فى إحدى زياراته للندن وكان ذلك عام 1973.
والغريب أن كلًا منهما بهاء الدين والسعدنى قد رحل عن عالمنا بنفس الطريقة إذ إن كلًا منهما أمضى سنوات على فراش الموت وكأنه فى عالم آخر، ويبدو أن الإرهاق الذهنى والكد العقلى يؤديان إلى نوع من جلطات المخ التى تصل بصاحبها إلى حالة بين الحياة والموت. ومحمود السعدنى بالمناسبة هو شخصية متميزة تأثرت بها وتعلمت منها، فهو راوية رائع وحكاء فريد يتقد ذكاءً ويشتعل سخرية، ولقد رافقنا فى هذه المسيرة ابنه العزيز ووحيده أكرم السعدنى الذى أصبح كاتبًا مرموقًا وكنت شخصيًا أعتبره سكرتير عام المجموعة المصاحبة لوالده من مريديه وعشاق أحاديثه، والسعدنى هو الذى أطلق على الشيخ محمد رفعت عبارة قيثارة السماء، وقد عدت من عطلتى فى مصر إلى لندن نهاية 1974 وقلت للسعدنى: إن لك مفاجأة معى، قال: وما هى، قلت له شريط تسجيل للقرآن الكريم من مقرئ جديد لم أستمع لمثل صوته من قبل قوة ودفئًا فهو يمثل أمامى حنجرة الفلاح المصرى عندما يقرأ القرآن، ووضعنا الشريط فى كاسيت السيارة واستمع له السعدنى بعناية وطرب كثيرًا لأسلوبه فى التلاوة وقال لى: إن هذا المقرئ سيكون له شأن عظيم، خصوصًا أنه عرف أن الشيخ الطبلاوى ظل يقرأ عدة سنوات فى الظل إلى أن سلطت عليه الإذاعة والتليفزيون المصرى الأضواء فعرفه الناس وافتتنوا بصوته كما افتتنوا من قبل بأصوات عظيمة مثل رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد والحصرى وغيرهم.
وأنا أدعى أيضًا الخبرة الكاملة فى أصوات قراء القرآن الكريم فى العقود الخمس الأخيرة وأميز بينها فورًا حتى أنصاف المشهورين منهم، وأنا أعشق أصوات عبد العظيم زاهر والدمنهورى وأبو العينين شعيشع ومحمود على البنا وغيرهم من أركان مملكة التلاوة المصرية التى كانت إحدى أدوات القوة الناعمة لمصر الإسلامية خارج حدودها، وقد دارت الأيام وعملت فى الهند دبلوماسيًا بالسفارة وجاء الشيخ الطبلاوى مرافقًا لوزير الأوقاف المصرى للتواصل مع مسلمى الدولة الهندية وعددهم يزيد على المائة مليون، وصاحبته أسبوعًا على الأقل أسعدنى فيه بروحه المرحة وأسلوبه الذكى فى التعامل مع الناس، ولقد قال لى يومها وزير الأوقاف المصرى: أرجو أن تكتب إلى وزارة الخارجية عن ردود فعل مسلمى الهند لتلاوة الشيخ الطبلاوى لأن ذلك يكون مستندًا إضافيًا لترشيحه نقيبًا للقراء أو رئيسًا للرابطة التى تضمهم.
وقد حكى لى الشيخ الطبلاوى أنه كان يقرأ ذات مساء فى سرادق عزاء مع الشيخ طه الفشنى الذى كان أكبر سنًا وأكثر شهرة وكان من المفترض أن يأخذ الفشنى ثمانية جنيهات وأن يأخذ الطبلاوى ثلاثة جنيهات فقط وكان ذلك خلال خمسينيات القرن الماضى ولكن صاحب المناسبة بعد أن انفض العزاء أخطأ بين المظروفين فأعطى لكل منهما مظروف الآخر، فسأل الفشنى الطبلاوى: هل حدث خطأ فى المظاريف؟ فرد عليه: لقد أخذ كل منا ما يستحقه!، فقد كان الطبلاوى هو الذى قرأ معظم الوقت ولم يقرأ الفشنى إلا ربعًا واحدًا بحكم مكانته وتقدم سنه. وأتذكر أن الطبلاوى صمم على شراء ببغاء من الهند وكان له ما أراد وشعرت بالفعل أننى أمام قارئ يجسد خشوع المصريين أمام دينهم. ومضت الأيام وعاد السعدنى وعدنا أيضًا إلى مصر وانشغل محمود السعدنى فى بناء وتنظيم النادى النهرى للصحفيين بالجيزة وأعطاه كل وقته ووظف كل اتصالاته للحصول على الدعم المالى والعينى من أصدقائه وعارفى فضله وقد سانده فى ذلك الكاتب الصحفى المعروف إبراهيم حجازى، وعندما كان يدعونى السعدنى إلى النادى النهرى فى بعض الأمسيات كنت أجد الوزراء أمثال الكفراوى ومحمد عبد الحليم موسى وعمرو موسى وإسماعيل سلام وأسامة الباز ويمتد بنا السهر إلى ما بعد منتصف الليل، ونحن جميعًا مشدودون إلى أحاديث السعدنى وضيافته الكريمة.
ويوم الافتتاح الرسمى للنادى حضر رئيس الوزراء د.عاطف صدقى لقص الشريط وتشريف الاحتفال ويومها جرى استهلال الحفل بتلاوة مباركه من الشيخ الطبلاوى رحمه الله، وهمست فى أذن الحاج إبراهيم نافع- العمدة من الجيزة والصديق الأقرب إلى السعدنى- يا ترى كم تقاضى الشيخ الطبلاوى فى هذه المناسبة؟، فقال لى: لعلك تمزح وهل يدفع السعدنى ثمنًا للمشاركة فى هذا الحفل، إن الطبلاوى متطوع عشقًا فى السعدنى وتحية للصحافة والصحفيين، وبعد ذلك كنت أرى الشيخ الطبلاوى فى سرادقات العزاء وقاعات المساجد وكان يحرص على تحيتى ومصافحتى، وذات يوم رأى مجموعة من الأشخاص تتحدث حولى فتوقف بين آيتين ونهرهم قائلًا: إن الرجل مستمع جيد للقرآن فلا تشغلوه عنه.. وعندما نعى الناعى الشيخ الطبلاوى أدركت أن صفحة قد طويت وأن مملكة التلاوة خسرت أحد أركانها وأن عصرًا قد مضى ولن يعود!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1977205