تطل علينا بعد أيام قليلة الذكرى الثالثة والخمسون لهزيمة يونيو عام 1967 بآثارها الضخمة وانعكاساتها الكبيرة في حياتنا، ولازلت أتذكر أنا وجيلي أنها كانت أكبر صدمة في حياتنا، فقد عشنا سنوات المد القومي والحلم العربي وتصورنا في مطلع ستينيات القرن الماضي أنه لا توجد قوة قادرة على قهر العرب، فكانت النكسة مزدوجة التأثير من حيث دهشة المفاجأة لحدوثها فضلًا عن نتائجها السلبية الواسعة على العباد والبلاد، على البشر والحجر ولا زالت تمثل غصة في حلوقنا حتى اليوم، ولكن الذي يتأمل المشهد في ذلك الوقت سوف يدرك أننا سقطنا أسرى عدد من العوامل الحاكمة وهي:
أولًا: إن الجيش المصري لم يدخل حربًا متكافئة فكانت الهزيمة سياسية أكثر منها عسكرية كما أن الجندي المصري لم يعط الفرصة لخوض المعارك وإثبات بسالته وتأكيد تاريخه، فعلى الرغم من أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد نبه إلى احتمال ضربة إسرائيلية قبلها بيومين فقط إلا أن استعداداتنا كانت لا تزال سياسية وإعلامية ولا يقابلها درجة من الالتزام العسكري والاستعداد القتالي، ومع ذلك أثبت الجيش المصري بعد الهزيمة بأيام قليلة أن معدنه الأصيل لا يزال لامعًا وأن قدرته على المواجهة صلبة وصامدة فدخل معارك رأس العش وشدوان وعبر الفدائيون المصريون القناة إلى الضفة الشرقية وقاموا بعمليات استشهادية خلف خطوط العدو، كما تمكن ضابط نادر الطراز هو الفريق محمد فوزي من أن يجمع شتات القوات المسلحة واستطاع بصرامته وجهامته أن يعيد الضبط والربط إلى الجنود والضباط بعد صدمة الهزيمة بأسابيع قليلة وقد استبسل المقاتل المصري حتى سقط رئيس الأركان الفريق عبد المنعم رياض شهيدًا في جبهة القتال على ضفة القناة.
ثانيًا: لا نستطيع أن نعفي قادة البلاد من وطأة الهزيمة سياسيًا وعسكريًا، فلقد كان عبد الناصر زعيم البلاد سياسيًا هو القائد الأعلى للقوات المسلحة عسكريًا وكان المشير عامر النائب الأول لرئيس الجمهورية سياسيًا هو القائد العام للقوات المسلحة عسكريًا، ونحن هنا لسنا بصدد توزيع الاتهامات ولكن دعنا نعترف أن مرارة الهزيمة كانت أقوى من الزعامات والصداقات والقيادات، ولازلت أتذكر القاهرة المظلمة في التاسع من يوليو عام 1967 عندما صدمنا خطاب التنحي ومن فرط الخوف على المستقبل خرج المصريون يطالبون ببقاء الزعيم ومواصلة الطريق رفضًا للهزيمة وطلبًا للثأر.
ثالثًا: ظهرت الروح العربية في أفضل ما تكون، فالعاهل السعودي الملك فيصل توجه إلى القمة العربية في الخرطوم وهو يحمل في ملفاته دعمًا لتسليح جيوش دول الجوار ورغبة في طي صفحة الماضي حتى استعاد عبد الناصر روحه المعنوية العالية وزعامته الطبيعية عندما رأى جماهير الشعب السوداني تصطف في الشوارع تحيي القائد العربي وكأنه يحمل أكاليل الغار وتاج النصر على رأسه، وكانت تلك بداية الشعور العربي المشترك بضرورة رفض الهزيمة ومواجهة العدوان بمنطق أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة وأنه لا صوت يعلو على صوت المعركة، وقاتل العرب على جبهة القناة واستشهد كويتيون وجزائريون ومغاربة إلى جانب المصريين والعراقيين والسوريين والأردنيين وغيرهم من أبطال حرب الاستنزاف الطويلة ثم حرب أكتوبر الظافرة، ولن يغيب عن ذاكرتنا مشهد الرئيس الراحل هواري بو مدين وهو يصل إلى القاهرة حاملًا شيكًا على بياض يقدمه للقيادة المصرية وفاءً بمدفوعات الأسلحة الروسية وطلبًا لمواصلة القتال وسعيًا لتجديد روح المحارب العربي؛ لذلك فإنني أقول للمصريين والأشقاء العرب على السواء إننا جميعًا شركاء في المحن وصف واحد أمام التحديات ولذلك فإنني أرفض اللهجة الشيفونية المتبادلة أحيانًا بين بعض الدول العربية في محاولة للمن والحديث عن دعم الأشقاء وكأن كل ما حدث كان طريقًا ذا اتجاه واحد، وعلى سبيل المثال فإنه كما دعمت مصر الثورة الجزائرية فلقد دعم الجزائريون مصر في معركتي الاستنزاف والعبور وقس على ذلك ما حدث مع باقي الأشقاء.
رابعًا: إن بزوغ المشروع الديني بعد نكسة يونيو عام 1967 وكأنه بديل للمشروع القومي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في خمسينيات وستينيات القرن الماضي فظهرت الجماعات الإسلامية أو المتأسلمة لتحصد من نتائج الهزيمة ما يدعم سياستها ويدفع بها بين صفوف الجماهير، وبوفاة الزعيم الراحل عبد الناصر تصور البعض أن مصر الجريحة قد لا تتمكن من الوقوف على قدميها قبل سنوات طويلة؛ وإذا كان عبد الناصر بطلًا قوميًا قد رحل وسقط واقفًا كالأشجار فإن مجيئ الرئيس الراحل السادات - وهو رجل دولة من طراز رفيع – قد جعله يستفيد من صورته في أعين الآخرين كنقطة انطلاق لمفاجأة حرب أكتوبر عام 1973 وعبور القوات المسلحة إلى الجبهة الشرقية للقناة متجاوزة أوسع مانع مائي في الحروب الحديثة فضلًا عن أكبر ساتر ترابي وهو خط بارليف وقد تحمل السادات بعض مظاهر السخرية والتندر بشخصه لأكثر من عامين ولكنه كان يستعد في صمت ودهاء لمعركة الثأر العربية ممن كانوا يتيهون بنتائج حرب الأيام الستة وهزيمة العرب التي لا قيام بعدها؛ ولذلك فإنني أطالب المؤرخين بنظرة إنصاف لزعماء مصر وحكامها فكل واحد منهم هو ابن ظروفه بحيث تشكلت رؤيته من البيئة السياسية التي أحاطت به والمناخ الفكري الذي عاش فيه، وفي ظني أن كثيرًا من زعمائنا يحتاجون إلى نظرة إنصاف، فالتاريخ يكتبه الجالسون على مقاعد السلطة وليست الجماهير الحقيقية التي تعرف كل ما جرى وتختزن في عبقرية وصمت فهمًا خاصًا لكل مرحلة.
خامسًا: ما أشبه الليلة بالبارحة، فالعالم العربي يشهد حالة من التراجع وتطوقه العداوات من كل اتجاه وتستهدفه الأطماع من كافة الجوانب ولا شك أن روح النصر بعد الهزيمة تحتاج إلى استعادة شاملة في هذه المرحلة، نعم .. لقد تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال ولكن يبقى الإنسان هو الإنسان ابن زمانه ومكانه.
هذه خواطر في ذكرى يوم مؤلم في تاريخنا القومي الحديث لا نقصد من الإشارة إليه إلا التذكرة بأن الروح المتجددة في هذه الأمة قادرة في كل وقت على أن تستعيد حيويتها وتنفض الغبار عن وجهها وتتجه إلى حياة العصر بكل توجهات الحداثة ومظاهر الرقي وعوامل النهوض في زمن يحفل بالتحديات ويزخر بالقفزات الهائلة إلى الأمام، ونحن نريد أن يكون العرب في موقع ملائم من خريطة البشر بعد أن انتقلنا من عصر الحروب وحدها إلى عصر الأوبئة أيضًا وما يرتبط بها من نظرة تشاؤمية ورؤية غامضة وقلق لا يتوقف!
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 2 يونيو 2020.