ما أكثر ما قرأنا جميعًا - خصوصًا في فترة الحظر والحبس الاختياري في المنازل - منذ اجتياح وباء كورونا للعالم كله بشكل غير مسبوق، وخرجنا من حصيلة هذه القراءات التي يختلط فيها الطب بالسياسة والصحة بالتعليم والعلاقات الدولية بالاقتصاد العالمي فتكونت لدينا جميعًا حصيلة قلقة ومضطربة عن المستقبل، لقد بات الإنسان المعاصر أكثر تشاؤمًا من ذي قبل وأصبح الخيط رفيعًا بين الحياة والموت رغم أنه كذلك في كل الأحوال، إلا أن غدر وباء كورونا قد ذكّر من نسى، وأفاق من تاه، وأصبحنا جميعًا أمام تحديات كبيرة ومخاوف كثيرة من المستقبل وما تأتي به الأيام، إذ يبدو أننا – كما يردد المتشائمون – سوف نواجه دورات متتالية من الأوبئة التي تحصد الأرواح وتثير الفزع بين البشر وتقتل الأمل في المستقبل وتُحكم سيطرة النظم الحاكمة على شعوبها وتعيد دورة الزمن إلى الوراء بحيث تزدهر المركزية وتقبض الدولة على أعنّة المؤسسات المختلفة والمرافق المتعددة بمنطق مواجهة الوباء والتلويح بالفزاعة الجديدة وهي عودة الإنسانية إلى عصر الأوبئة الفتاكة التي تصورنا أننا قد تخلصنا منها منذ أمد بعيد، وليت الأمر كذلك فحسب بل إن ما جرى في الشهور الأخيرة قد يؤدي إلى القضاء على الخصوصية نهائيًا، ولقد خلصت شخصيًا لتصور محدد أدعي أنه سوف يصبح غاية كافة الإجراءات العالمية على المستويات السياسية والاقتصادية والعلمية وأعني به الوصول إلى الهدف الذي تسعى إليه الجماعات المؤثرة في مستقبل العالم وأقصد بذلك مفهوم المواطن العالمي، فالذين تحدثوا عن العولمة ثم خرجوا عليها بعد ذلك بالحديث عن صراع الحضارات ثم وتوقفوا أمام الإرهاب باعتباره فزاعة عصرية كبرى، إن هؤلاء هم أنفسهم الذين يتحملون مسئولية الأحداث الغامضة وتفسير التطورات غير المفهومة التي صاحبت الوباء الأخير ودوراته المنتظرة، إن هناك سعيًا حثيثًا لكي يصبح إنسان العصر ترسًا صغيرًا في آلة بشرية ضخمة وهائلة يُؤمر فيها فيطيع، ويُطلب منه فيستجيب، بحيث تتعطل إرادته وتتوقف قدرته على اتخاذ المبادرة الفردية أو التفكير المستقل، ولا بأس من دخول تكنولوجيا الطب أداة عصرية سحرية لتحقيق هذه الأهداف من خلال تطعيمات وعقاقير يختار الإنسان بينها وبين الموت، إنني لست من دراويش نظرية المؤامرة ولكني أشتم ريحًا خبيثة تهب علينا من مراكز صنع القرار العالمي والأجهزة السرية التي تحكم سياسات الدول والجماعات ذات التاريخ الطويل في محاولة توحيد العالم وجعل الجنس البشري كتلة واحدة تتحرك في ذات الاتجاه، والذين قرأوا فكر (الماسونية) وتأثيرها الضخم في الغرب والشرق على السواء يدركون شيئًا مما نقول، ونرجو أن يكون كل ما نتحدث عنه هو فرط تشاؤم من أحداث الشهور الماضية مؤمنين بالمقولة الخالدة (تفاءلوا بالخير تجدوه)، ولعلي أطرح هنا ثلاث ملاحظات جديرة بالتأمل:
أولًا: إن ما حدث خلال شهور الذروة لكارثة كورونا قد أثبت أنه لا يوجد فارق كبير بين الدول الغنية أو الفقيرة وأن المأساة مشتركة تعم الجميع سواء من يملكون أو من لا يملكون، بل إنه من سخرية القدر أن بعض الدول - الأكثر فقرًا والأشد حاجة - كانت أكثر تحملًا لوطأة الوباء وتعاملًا معه وكأنه إنذار إلهي يؤكد أن المال ليس هو السياج الوحيد لصيانة الحياة واستمرار الجنس البشري، كما أن ما جرى قد كشف الغطاء عن الخواء الضارب في أعماق كثير من القوى العظمى والكبرى التي تتباهي بترسانات الأسلحة وآليات الدمار الشامل فإذا هي عاجزة أمام فيروس لا يمكن رؤيته إلا بصعوبة مستخدمين أحدث مجهر وأدق ميكروسكوب، إنه إعجاز من القوة الخارقة ورسالة لمن يريدون أن يرثوا عظمتها وجلالها وأن يتحكموا في المخلوقات كما لو كانوا هم الخالق.
ثانيًا: إنني لا أستخف بالنظرية القائلة أن هناك سعيًا غامضًا وسريًا لتقليل عدد البشر من المليارات السبع إلى النصف أو أقل قليلًا، فالموارد محدودة ومصادر الطاقة لا تكفي والبيئة تئن بالتلوث، كما أن التغير المناخي يضيف بعدًا سلبيًا آخر في منظومة الندرة في ظل الحاجات المتزايدة والأعداد الكبيرة، ويريد الأوصياء الجدد على حياة البشر أن يكونوا هم الحكم عند اختيار استمرار الحياة للبعض وتجاهلها للبعض الآخر، ولا شك أن ما سوف يحدث سيصبح محاولة لتقسيم البشرية بين الجنسين الأبيض والأصفر مع هوامش من شعوب أخرى يتم الانتقاء بينها، وقد يكون نصيب العرب والأفارقة محدودًا ونصيب أوروبا متميزًا ونصيب الصين مدهشًا لأنها على ما يبدو قد شاركت في الوقوف وراء مسرحية نهاية الوجود التي تعتبر ظهور وباء كورونا مبشرًا بها ومقدمة لها.
ثالثًا: إن الذين يفكرون بالمنطق الذي أشرنا إليه لا يدركون أن هناك عوامل أخرى يمكن أن تطيح تمامًا بهذه الأفكار الجديدة والنظريات الحمقاء؛ لأن المليارات من البشر هم من المؤمنين بالإله والذين يعتنقون ديانات تتعارض شكلًا وموضوعًا مع الطرح الذي أسلفناه، وأن الإيمان الديني والإرادة البشرية قادران على تحريك الأمور في اتجاه مختلف وتوجيه الإنسان العالمي وفقًا لمصالحه لأن القضاء على الأديان والقوميات وأطر الدولة الوطنية ليست كلها أمور سهلة لأنها تراكم طويل المدى لقرون طويلة وعصور سحيقة.
من هذه الملاحظات أدق ناقوس الخطر لأن الثقة لم تعد متبادلة ولأن الإحساس المطلق بأن العلم الحديث في خدمة الإنسان وفقًا لقيم وتقاليد وأخلاقيات لم يعد أمرًا يمكن أن يأخذ على علاته بحيث يؤمن به الجميع ويشعر به الكافة، إننا لا نرفض مفهوم الإنسان العالمي إذا كان في ذلك صلاح أمره وتحسين أحوال معيشته والحفاظ على حياته مع نشر العدل وشيوع الأمن واستقرار السلام.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 30 يونيو 2020.