مغرمون نحن العرب بالمضي وراء شعارات التخوين وإلصاق التهم بكل من يختلفون معنا في الرأي حتى ولو كان رأيهم اجتهادًا يصيب أو يخطئ لأننا لا نرى إلا وجهة نظرنا ولا نبصر أبعد من أقدامنا، وما أكثر الفرص الضائعة في تاريخنا نتيجة غرامنا بتجريم الآخر وإلصاق التهم به وكأننا لم نسمع بما قاله الإمام الشافعي إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، أو مقولة فولتير الشهيرة: إنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا لحرية رأي أختلف معه، وأنا أظن أن حق الاختلاف هو واحد من الحقوق الضائعة في حياتنا المعاصرة، وأضرب لذلك أمثلة كثيرة منها على المستوى القومي مبادرة الرئيس الراحل السادات بزيارة القدس والمضي في التسوية على النحو الذي عرفناه، وسبب دهشتي أننا لم نتمكن كعرب من الحوار معه ودعمه في مبادرته شريطة ألا يحيد عن الثوابت القومية وألا يمس جوهر القضية الفلسطينية رغم أنني كنت وقتها من المصدومين بما حدث والمندهشين لقرار السادات إلا أنني عدت إلى مراجعة تفكيري وآمنت أن للمجتهد أجران إذا أصاب وأجر إذا أخطأ إذ يكفيه شرف المحاولة، ولهذا فإننا لا يجب أن نتصور أن كل من يتبنى رأيًا جديدًا أو موقفًا مختلفًا هو بالضرورة عدو لنا أو خصم أكيد لأسلوبنا في التفكير وطريقتنا في الحياة، وأنا أظن حاليًا أن رفضنا الدائم لخيار الآخر هو واحد من المشكلات الحقيقية التي تعوق الحياة الديمقراطية وتضرب الإجماع الوطني في مقتل، ولقد بهرني أن رأيت صورة الرئيس الراحل السادات في بهو مجلس الشعب السوري منذ سنوات قليلة باعتباره كان واحدًا من رؤساء المجلس في سنوات الوحدة المصرية السورية، وأكبرت في من فعل ذلك احترامه لسياق التاريخ والابتعاد عن العبث به، كما أراحني أيضًا أن الموقع الإلكتروني الجديد لرئاسة جمهورية مصر العربية قد وضع السيد محمد مرسي في مكانه الطبيعي بين رؤساء البلاد، فتلك هي ثقافة العصر وموضوعية الفكر وحياد الرأي، والتاريخ بدهائه المعروف، وعمقه الدائم، وتكرار أحداثه قد وضعنا دائمًا في مأزق حقيقي لأن محاولة تحريفه أو تغيير معالمه هي محاولة ضد حركة التاريخ ذاته، فأنا مثلًا لا أتحمس لتغيير أسماء الشوارع الكبرى نتيجة اختلاف العهود وظهور نظم جديدة وأرى أن الأسماء يجب أن تظل مهما كان موقفنا من أصحابها لأنها أصبحت تراثًا تاريخيًا يجب الاحتفاظ به، ونفس الأمر ينسحب على التماثيل والنصب التذكارية، فالمهم في صاحب المبادرة الجديدة أو الفكرة الرائدة أن يكون مخلصًا لها، مؤمنًا بما يفعل، لا يبتغي من وراء ذلك نفعًا شخصيًا أو شهرة عارضة، ولو أننا لحقنا بركب السادات عام 1977 وما بعدها ربما كان وضع الفلسطينيين أفضل مما هم عليه الآن واضعين في الاعتبار أن إسرائيل دولة مراوغة ولا يمكن اتهامها بحسن النية أبدًا ولها مخطط طويل لا يغطي عقودًا فقط ولكن يغطي قرونًا أيضًا، ولذلك فإن التعامل معها يحتاج إلى حذر شديد وتمسك قوي بالثوابت كما أنه يحتاج قبل هذا وذاك إلى مركز تفاوضي قوي يقوم على تغييرات إيجابية لصالحنا على الأرض وهو ما ليس متاحًا حاليًا، وأتذكر الآن ما كتبته منذ أسابيع عن الخلاف بين سعد زغلول وعدلي يكن في تاريخ الحركة الوطنية المصرية، ورفضت محاولات تجريم عدلي باشا لأنه رأى المضي في التفاوض من أجل الجلاء والدستور بينما كان يرى سعد وغلاة المتطرفين من أنصاره أن التفاوض يأتي بعد الجلاء وليس قبله ووصل بهم الشطط إلى رفع شعار يقول (الاحتلال على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلي)، وهنا نحذر من خطر الانسياق وراء جاذبية الكاريزما ورفض كل ما عداها وإحلال العواطف المشتعلة بديلًا للرؤى البعيدة والأفكار الرصينة، وما أقوله الآن لا يقلل من قيمة سعد باشا زغلول ولكنه قد يرفع بعض الغبن عن تاريخ عدلي باشا يكن، ولتكن لدينا دائمًا رحابة الفكر وسماحة الاختلاف حتى نعطي الفرصة لغيرنا في أن يقول ما يراه مؤيدًا أو معارضًا، فتلك هي تعاليم الديانات وهي أيضًا الأسلوب الأمثل لتضافر الجهود من أجل تحقيق الهدف مهما تعددت الوسائل، وإذا غرد طائر خارج السرب فإنه سوف يعود يومًا إلى عشه الأول وإلى أقرانه الحقيقيين، لذلك فإن خلاصة ما أريد أن أصل إليه هو الدعوة إلى فتح الأبواب والنوافذ لكل الأفكار والرؤى التي نتفق معها أو نختلف دون مصادرة على رأي أحد أو تخوين من نختلف معهم أو تجريم الغير إذا لم تكن آراؤه متفقة معنا أو مؤيدة لنا، ففي الحياة متسع لي ولك ولغيرنا وليس صحيحًا أبدًا أنك تبني مكانك على حساب غيرك بل إن في الأرض متسع للجميع، وعندما كتب الدكتور عمرو سميح طلعت كتابه الشهير عن فترة الخلاف بين زعيم الأمة سعد زغلول وعدلي يكن فكأنما كان يقدم لنا نموذجًا لحق الاختلاف بل وآدابه أيضًا، فلم نسمع من أحد الطرفين تسفيها للآخر بل امتدت العلاقات الإنسانية بينهما لأنهما خرجا معًا من عباءة ثورة عام 1919، وليس يعني ذلك كله أننا ندعم الخلاف في الرأي تطبيقًا لنظرية خالف تعرف بل إننا نتمنى على كل من يقوم بالتصدي للعمل العام أن يكون جلده سميكًا وعقله متفتحًا ونفسيته صافية وإلا غرق في مستنقع الخلافات والمهاترات والأراجيف وكلها لا تترك أحدًا بخير.. مرحبًا بكل من يختلف معي ما دمنا نقف جميعًا على أرض وطنية صلبة وفي بيئة قومية صحية فذلك هو الطريق الأقصر إلى الوعي العربي الحقيقي والرؤية الصادقة نحو مستقبل أفضل لنا وللأجيال القادمة.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 14 يوليو 2020.