صادف الثانى من أغسطس هذا العام عيد الميلاد المئوى لأبى، رحمه الله، الذى غادر عالمنا منذ أكثر من عشرين عامًا قبل أن يبلغ الثمانين بشهور قليلة، وأنا هنا لا أتحدث عن أمر شخصى، ولكننى أبحث فى أحوال الدنيا منذ مائة عام عندما استقبل أبى الحياة، حيث كانت الظروف الدولية والإقليمية مختلفة تمامًا، فلقد كان العالم يلفظ غبار الحرب الكونية الأولى ويتهيأ لمرحلة جديدة تقوم فيها منظمة عالمية واحدة برعاية السلم ومنع الحرب عندما استقر موقع عصبة الأمم فى مدينة جنيف السويسرية، وقد عرفت تلك السنة انتشار وباء الإنفلونزا الإسبانية قبل مائة عام بالتمام والكمال من انتشار وباء كورونا الذى لا يتركنا إلا ليعاود اقتحام حياتنا فى موجات جديدة، لذلك تشاءم الكثيرون من العام العشرينى فى كل مائة، وإن كنت لا أميل إلى مثل هذه الحسابات، إلا أن ما جرى فى الشهور الماضية من هذا العام يوحى بأن أبى قد وُلد فى ظروف أفضل.. صحيح كان هناك عشرات الملايين من ضحايا الحرب، وصحيح أن ألمانيا خسرتها فكانت بداية الشحن الشيفونى الذى اعتمد على سمو الجنس الآرى، بحيث تفجرت تحرشات الحرب العالمية الثانية بعد أقل من عشرين عامًا، وهذه حقيقة يجب أن يدركها الجميع، وهى أن السلام القائم على منتصر ومهزوم هو سلام هش لا يدوم، وكانت مصر تحت حكم السلطان أحمد فؤاد تعيش أجواء ثورة عام 1919 وأصداءها الكبرى فى حياة الناس وطريقة تفكيرهم وأسلوب معيشتهم، كان الشعار هو الهلال مع الصليب راية خفاقة فى شوارع المدن، وكان سعد زغلول هو زعيم الثورة الذى ارتبطت به الجماهير، فهى ثورة بدأت من الشارع عام 1919 ولا نكاد نرى لها شبيهًا إلا ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو 2013، إذ إن خروج الناس إلى الشارع هو فى ظنى التعبير المباشر عن شعبية الحشود وإيمانها بقضية وطنية محددة. لقد كان عام 1920 هو عام الصحوة المصرية بامتياز، إذ لم يمضِ بعدها إلا عامان وصدر تصريح 28 فبراير 1922 الذى يمنح الحكم الذاتى لمصر فى ظل استقلال منقوص تحيط به تحفظات أربعة، وفى ذلك الوقت كانت شعبية حزب الوفد فى قمتها، فلم تكن الانقسامات قد بدأت داخل الحزب، كذلك فإن أصداء الثورة كانت لاتزال تهز كيان البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وقتها تجاوب الفن من سيد درويش إلى محمود مختار، وتحركت النزعة الوطنية فى الاقتصاد بريادة طلعت حرب، وفتحت مصر المفوضيات فى عواصم العالم الكبرى، كذلك ازدهرت الأفكار المرتبطة بوحدة وادى النيل، ولم تكن الهوية العربية لمصر بذات الوضوح الذى تميزت به بعد يوليو 1952، لقد كانت مصر فى تلك الفترة واحدة من أجمل بلاد الدنيا وعاصمتها من أنظف مدن العالم، لأن عدد سكانها كاد يكون بمثابة الحجم الأمثل فى عدد السكان منسوبًا للمساحة الكلية والرقعة الزراعية، ولقد كان أبى، رحمه الله، يتحدث بحماس عن العصر الملكى ورموزه ويشرح لى الفارق بين عبارات صاحب المقام الرفيع أو دولة الرئيس أو صاحبى المعالى والعزة، وكان مغرمًا بالنحاس باشا، ذلك السياسى الوطنى نظيف القلب طاهر النفس الذى لم يحكم كثيرًا ولكنه تألق دائمًا من بداية المنفى مع زعيمه سعد باشا وصولًا إلى معاهدة 1936 مرورًا بالأحداث الجسام لبدايات الحرب العالمية الثانية والإنذار البريطانى فى 4 فبراير عام 1942 للملك فاروق وتشكيل النحاس باشا حكومة وطنية وفدية خالصة بعد اشتراطه سحب الإنذار المهين لمصر ملكًا وشعبًا، وقد تحمس أبى فى البداية لثورة عام 1952 وكان يخشى عليها من التراجع مثل (هوجة عرابى) كما كانوا يسمونها، وأحب نجيب، ثم تعلق بعبدالناصر، ثم عشق السادات، وظل مؤمنًا بأن قانون الإصلاح الزراعى لم يكن له مبرر وأنه كان يمكن الوصول إلى نتائجه بفرض الضرائب التصاعدية على الأطيان، واعتصرته نكسة يونيو عام 1967 وغياب أخى الضابط الذى عاد بعد انتهاء الحرب بأسابيع هاربًا من معسكر الأسرى هو وبعض رفاقه. لقد رحل أبى فى مايو 2000 بعد رحيل أمى بسنوات ثلاث وظل دائمًا مؤمنًا بالله والوطن ولم يتزعزع عن إيمانه أبدًا.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2006491