رفع العرب سلاح المقاطعة الكاملة مع إسرائيل لعدة عقود وخصصت جامعة الدول العربية مكتبًا إقليميًا لهذا الغرض مقره في العاصمة السورية دمشق، وتركزت فلسفة الخمسينيات والستينيات بل والسبعينيات أيضًا على أن المقاطعة الاقتصادية والسياسية هي أمضى الأسلحة لمواجهة سياسات إسرائيل العدوانية والاستيطانية والعنصرية، وأتذكر أن أستاذنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في ستينيات القرن الماضي الدكتور بطرس بطرس غالي كان يقول لنا: إن من أسباب استمرار جامعة الدول العربية هو قدرتها على الحيلولة دون صلح منفرد لإحدى الدول العربية مع إسرائيل، ولقد سألته يومها: وما هي الدولة الأقرب إلى مثل هذه الخطوة، أجاب دون تردد: ربما تكون لبنان بحكم موقعها الجغرافي ووضعها السياسي ودورها الاقتصادي الخدمي في المنطقة، ثم مرت سنوات فإذا الخطوة تبدأ من أكبر دولة عربية بمبادرة ضخمة من رئيس مصر الراحل أنور السادات بعد نصر أكتوبر عام 1973 فكان سعيه لتوظيف نتائج تلك الحرب في تحقيق السلام أمرًا لا بد منه، وعندما اكتشف أن ثمار السلام لا تتحقق وأن آلية التسوية السياسية تمضي ببطء كان قراره التاريخي بزيارة القدس في نوفمبر عام 1977، وهي خطوة أثارت جدلًا قوميًا وفتحت بابًا للخلافات العربية-العربية لعدة عقود واستعاد بها السادات أرض مصر دون أن يمس الحقوق الفلسطينية بأي التزام سلبي بل على العكس كان خطابه في الكنيست من أقوى ما قيل دعمًا للقضية الفلسطينية، وكان من الطبيعي أن يتهمه العرب في معظمهم بالخيانة بل إن قطاعًا من المصريين تبنى نفس الموقف وكانوا معارضين للسادات حتى أن نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إسماعيل فهمي رفض الذهاب معه إلى القدس وآثر الالتزام بقناعاته التاريخية باعتباره دبلوماسيًا مصريًا مرموقًا يعرف أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى وأن طريق السلام مع إسرائيل ليس سهلًا ولا مضمونًا، والآن جاء الوقت بعد مماحكات وملامسات بين إسرائيل ودول عربية أخرى أرضها غير محتلة، فمصر والأردن لهما عذر قوي وهو أن أجزاء من أرضهما كانت محتلة ومن حقهما السعي حربًا وسلامًا لتحريرها واستعادة ترابها، ولكن دولة مثل موريتانيا وبعض دول الخليج العربي وربما السودان أيضًا بدأت تنظر في الأمر بشكل مختلف وترى أن سلاح المقاطعة ليس هو السلاح الأكثر تأثيرًا فضلًا عن أنه يمثل مادة للدعاية الإسرائيلية حول سلبية العرب ورفضهم الحوار المباشر والتعامل مع قضيتهم وكأنهم خارج دائرة العصر خصوصًا وأن المقاطعة الدبلوماسية تعبر عن نمط متراجع في العلاقات الدولية المعاصرة، فلقد كان ذلك أسلوبًا متبعًا منذ عدة عقود ولكن حالة الانفتاح العالمي وتطور وسائل الاتصال وتقدم تكنولوجيا المعلومات قضت كلها على هذه النمط التقليدي من التفكير، فالمهم حاليًا هو التمسك بالثوابت والنظر إلى جوهر القضية دون أن يكون ذلك على حساب سيادة الدول ودورها القومي، ولعلي أطرح هنا بعض الملاحظات المتصلة بهذا الأمر:
أولًا: إن الدولة – أي دولة – هي كيان ذو سيادة يستطيع أن يتخذ من القرارات ما يراه متلائمًا مع البيئة السياسية المحيطة والمناخ الدولي العام بشرط ألا يخرق التزامًا قوميًا قطعه على نفسه بمنطق التاريخ والجغرافيا، كما أنه يتعين على الدولة التي تقوم بعملية اختراق سياسي ودبلوماسي أن تضع في اعتبارها حماية أصحاب القضية وحقوقهم المشروعة والوضع في أرضهم المحتلة، ولا أظن أن بلدًا عربيًا واحدًا سوف يخل بهذه الثوابت أو يتنكر لها.
ثانيًا: إن إسرائيل قد قطعت شوطًا طويلًا في مجالات التطبيع الدولي خصوصًا على المستويين الإفريقي والإسلامي بل وقامت باختراق واضح لعدد من عواصم القارة السمراء بصورة علنية كما تحقق لها قدر كبير من التطبيع لم يكن متاحًا منذ عدة عقود، ولذلك فإن حجم الصدمة لا يصل في حدته إلى درجة تلك الصدمة التي أحدثتها اتفاقيات كامب ديفيد في وقتها والحملة الضارية التي تعرض لها الرئيس الراحل السادات والقطيعة التي جرت بين العواصم العربية والقاهرة بدعوى أن ما جرى هو تصفية للقضية الفلسطينية وانتهاك للمسلمات وعبث بالثوابت، ولكن أثبتت التجربة بعد ذلك أن التطبيع لا يعني التساهل في مفردات القضية أو التفريط في ثوابتها بل هو أمر قد يكون سببًا في تسهيل التعامل وتيسير أسباب التواصل التي قد تؤدي إلى تفاهم أفضل وتقرب يومًا تتحقق فيه العدالة للشعب الفلسطيني المناضل وتساعد على استرداد أرضه وضمان حقوقه خصوصًا وأن الشرعية الدولية لم تستطع حتى الآن ردع إسرائيل أو تحريكها عن مواقفها المعادية للشعب الذي اغتصبت أرضه وانتهكت مقدساته.
ثالثًا: قد يقول قائل: إن لعاب الدولة العبرية يسيل منذ قرن كامل على ثروات الخليج العربي والرغبة في دخولهم في شراكة إنشائية واستثمارية ونقدية مع تلك الدول التي منحها الله فيض من نعمته يتمثل في البترول العربي، وهنا أتساءل هل نتصور أن الخليج يحتاج إلى أوصياء عليه؟! أو أنه لا يدرك أكثر من غيره مصالحه الوطنية وسيادته السياسية وكرامته القومية؟! إن الدول العربية كلها قد شبت عن الطوق ولا تحتاج إلى نصائح تعليمية أو إرشادات معروفة سلفًا، وليدرك الجميع أن دول الخليج التي تتعامل مع العالم كله بتقنية ووعي وفهم وبندية كاملة لن يعوزها الأمر ذاته فيما يتصل بالعلاقات مع إسرائيل، بل وأضيف إلى ذلك إن الأمور لن تتحول بين يوم وليلة فسوف تحتاج إلى تدرج في الوقت والإجراءات حتى يتسنى اختبار النوايا واستكشاف الطريق والحذر أمر لا ينقص الشخصية الخليجية بل إن الخليجيين معروفون بذلك أكثر من غيرهم من أبناء أمتهم العربية.
إنني أقول هذه الكلمات مخلصًا لأمتي ولقضيتها الأولى القضية الفلسطينية ومجردًا من أي توجه سياسي ومؤمنًا إيمانًا كاملًا بأن لغة التخوين والتفسير التآمري للأحداث هي أمور عفا عليها الزمن فقد أصبحت الدنيا قرية كونية صغيرة لا يختفي فيها خبر ولا تضيع منها معلومة كما لا تنسى الشعوب حقوقها ولا تفرط في ثوابتها، فتلك هي حكمة التاريخ وفلسفة الجغرافيا وطبيعة البشر.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 8 سبتمبر 2020.