تحدثنا كثيرًا عن الاقتصاد المنظور أي المسجل ضرائبيًا وجمركيًا ويعتبر جزءًا لا يتجزأ من ثروة الدولة، بينما الاقتصاد غير المنظور هو ذلك الذي لا نعرف عنه الكثير ولكن نسمع عنه دائمًا، وقد رأى البعض تسميته باقتصاد (بئر السلم) في إشارة إلى خروجه على كافة القواعد بل والإجراءات المتبعة في تقنين العمل التجاري، وهناك عدد من مظاهر الحياة الاقتصادية الموجودة فعلًا ولكنها مرفوضة قانونًا وأخلاقًا وأعني بها تجارة المخدرات وبعض أنواع التجارة المجرمة في السلاح فضلًا عن ضعاف النفوس ممن يتعاملون في تجارة البشر خصوصًا أولئك المتورطين في جرائم الدعارة، وهذه كلها تتحول في النهاية إلى أرقام اقتصادية ولكنها لا تدخل في ملفات الدولة ولا في أضابير الحكومة وتبدو في الظل بينما قد تشكل في مجملها خمسين بالمائة من الاقتصاد الوطني، وليس هذا الأمر قاصرًا علينا وحدنا ولكنه موجود في كثير من الدول الآسيوية والإفريقية واللاتينية بل إن مافيا الجريمة المنظمة في أوروبا وبارونات المخدرات في الأمريكتين ينضمون جميعًا إلى هذا النمط الشائن من اقتصاديات الظل التي نعرف تأثيرها ولكننا لا نتعامل معها، وبرغم إحكام الرقابة البوليسية وتغليظ العقوبات القانونية إلا أن ذلك النمط من الجرائم لا يزال موجودًا، ولماذا نذهب بعيدًا؟! إن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف مافيا السلاح، ومافيا المخدرات، ومافيا تجارة الدواء، ومافيا أخرى تندرج تحتها كل جرائم العنف والممارسات اللاأخلاقية، إننا أمام عالم عجيب يصعب التكهن بمستقبله ما لم ندرس بدقة حاضره ولم نتفهم بوعي ماضيه، وفي مصر تحديدًا فإن الأمر مختلف تمامًا، دعنا نتذكر معًا ما يلي:
أولًا: إن معظم البيوت المملوكة والشقق المسكونة أو الخالية أو المهجورة لا يوجد لها سجل لدى الدولة لأنها غير مسجلة من خلال الشهر العقاري، وهو أمر حاولت الدولة مؤخرًا التدخل فيه بقوة حتى تضع ممتلكات المجتمع في إطار من الشرعية لا يسمح بذلك التخبط الذي عهدناه لسنوات طويلة، ونحن نتلقى يوميًا شكاوى من أسر مختلفة حول الخروج على قواعد تراخيص البناء وبيع عشرات الألوف من الشقق والمباني دون تصريح من مهندسي الإنشاءات أو إدارت الأحياء، وبهذه المناسبة فإنني لا أعفي المسئولين في الحكم المحلي عبر العقود الأربع أو الخمس الأخيرة من المشاركة في جريمة البناء بلا ترخيص أو الهدم بلا سند قانوني أو أثري حتى أصبحنا أمام منظومة مضحكة تدعو إلى الحزن والأسى في وقت واحد، وقد قال أحد كبار المسئولين في عصر مبارك: إن فساد المحليات قد وصل إلى الرُكَبْ، وهذه حقيقة نشعر بنتائجها الآن وندرك مغزاها في وقتنا الحالي.
ثانيًا: إن الرئيس والحكومة يسعون إلى تنظيف المجتمع وتحويله إلى كيان عصري يأخذ ويعطي ويخضع للقانون ويحترم الإجراءات المعمول بها ولا يسطو على أراضي الدولة ولا يغتصب حقوق الآخرين، والمعركة ليست سهلة إذ أن خفافيش الظلام ومافيا الفساد يقفون بالمرصاد لكل جهود الدولة المصرية حاليًا لإجهاضها وإلقاء التبعة على أسر الطبقات الفقيرة ودون المتوسطة ممن اشتروا شققًا دفعوا فيها دم القلب وجمعها ملاك فاسدون واختفوا وتركوا هؤلاء الفقراء المنصوب عليهم في مواجهة الدولة تحت ضغط ظروف صعبة، ويكفي أن الدولة تبني في بعض المناطق من الصفر وتريد أن تكون مصر دولة عصرية حديثة.
ثالثًا: إن الشعب المصري تعود لسنوات طويلة أن يعيش بمنطق (عيال الدولة) ولم يدرك أن لكل سلعة ثمن حقيقي ولكل خدمة مقابل محسوب ومن العسير أن يعيش الناس على الدعم الداخلي والقرض الخارجي والمعونة العربية، إن مصر أيها السادة أكبر من هذا وأعظم وقد حان الوقت لكي يتحمل المصريون – ولابد أن اعترف أنهم يفعلون ذلك حاليًا بشكل مبهر – من أجل الاستقلال الكامل والكرامة الحقيقية والعناد الوطني لأن دولة يضرب تاريخها المكتوب لما هو أكثر من خمسة آلاف عام يجب أن تشعر بالتميز مهما كانت الظروف الصعبة والضغوط الشديدة والحصار السياسي والإعلامي الذي تقوده فئة منا خرجت علينا وأساءت إلينا.
رابعًا: إن مصر التي يراها البعض محمية إلهية بينما ينظر إليها البعض الآخر على أنها الدولة المركزية المحورية الأولى في الشرق الأوسط فضلًا عن أنها حاضنة الديانات، مستقبلة الثقافات، موئل الحضارات لذلك فإنها لن تسقط أبدًا، وليس ذلك رجمًا بالغيب أو شطحًا في دهاليز الميتافيزيقا ولكنها قصة التاريخ الطويل وأسطورة الجغرافيا المتميزة، لديها خير أجناد الأرض الذين يشكلون واحدًا من الجيوش العشر الكبرى في عالم اليوم.
خامسًا: إننا أشد ما نكون حاجة إلى الضمير الوطني حاليًا الذي يؤمن بحق الدولة في الضرائب والجمارك، وفي الحصول على التصريحات الصحيحة والبناء الذي يتسق مع احتياجات البشر محترمًا في الوقت ذاته مظاهر التنسيق الحضاري وعناصر الرقي العمراني، وأنا شخصيًا أعمل في مدينة الإسكندرية ودهشت في سعادة لما رأيته في مساكن بشائر الخير التي يتعانق وسطها مسجد وكنيسة في إشارة إلى تحول حقيقي في شخصية مصر إلى الأفضل، كما أن محور المحمودية الذي أعتز به لا لأنه اسم الترعة التي بناها محمد علي وأولاده ولكن أيضًا لأنه اسم المدينة الكائنة في محافظة البحيرة والتي تنتمي إليها طفولتي وسنوات عمري الباكر.
لقد آن الأوان لكي يستعيد الوطن المصري شبابه، وينفض عنه غبار الفساد، ويتقدم بخطوات ثابتة نحو غد أفضل للأجيال القادمة.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 15 سبتمبر 2020.