سوف يظل ما جرى في 25 يناير 2011 وما بعده موضع جدل ومثار نقاش لسنوات طويلة قادمة، ذلك أن قدرًا كبيرًا من المعلومات المتصلة بتلك الفورة الشعبية لا يزال تائهًا إلى جانب تحليلات غامضة وأخبار متضاربة، ولكن الأمر المؤكد أن الجماهير المصرية التي خرجت إلى ميدان التحرير كانت في معظمها تعبيرًا شعبيًا تلقائيًا عن حالة ضجر من النظام القائم والرغبة في التغيير خصوصًا بعد آخر انتخابات نيابية عام 2010، فضلًا عن شعور عام بشيخوخة النظام وترهل مؤسسات الحكم والتفاوت الطبقي الملحوظ مع تراجع الخدمات وشيوع الفقر وانتشار الفساد الإداري والمالي، فضلًا عن ظهور انتقادات علنية للنظام دون أن يعبأ بها أو يتصدى للرد عليها فاستقرت في أذهان الجماهير باعتبارها حقائق وليست اتهامات فقط، لذلك فإننا لا نشكك في نبل المقصد ووطنية الثوار الذين خرجوا إلى الميادين في أنحاء البلاد يرفعون شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية ويتخذون من رغيف الخبز رمزًا لحياتهم فهو (العيش) بحق، ولكننا أيضًا وفي الوقت ذاته لا نتردد في أن نقول أن قوىً خارجية وداخلية لا تعبر عن الوطنية المصرية قد اندست في صفوف من خرجوا بنية طيبة ودوافع صادقة، ولقد تطورت الأمور واتجهت إلى التدهور السريع وأنا أظن أن الثمانية عشر يومًا الفاصلة بين بداية الثورة الشعبية وبين تخلي الرئيس الراحل عن السلطة قد شهدت أسوأ إدارة لأزمة في تاريخ البلاد، فردود الفعل كانت دائمًا متأخرة وحتى خطب الرئيس الأسبق تأتي بعد الموعد المحدد بعدة ساعات ويبدو واضحًا أنه قد جرت عليها تعديلات تجعل المعنى مختلًا والتناقض واضحًا، فبينما يتحدث الرئيس الراحل في مطلع خطابه عن ضرورة التغيير وسرعته يأتي ختام الخطاب مشيرًا إلى استمرار الأوضاع مع تعديلات هامشية، وحتى الخطاب الأفضل الذي تحدث فيه الرئيس مبارك عن تاريخه العسكري ودفاعه عن تراب مصر التي عاش على أرضها ويموت فوقها لم يجري استثماره على نحو أفضل ولم يقدم تنازلات واضحة ومؤثرة وعاجلة في وقت كانت فيه درجة الغليان في الميادين والشوارع المصرية في صعود واضح، ثم كانت واقعة الجمل في ميدان التحرير بغموضها وانعدام المصداقية في تفسيرها فضلًا عن القناصة من فوق الأسطح العالية حول الميدان، وأنا أظن أن عناصر من جماعة الإخوان الإرهابية هم الذين مارسوا نوعًا من القتل العشوائي للإرهاب والتخويف حتى جاءهم إنذار من الجيش ـــ أظنه ـــ على لسان اللواء حسن الرويني عضو المجلس العسكري فتوقفت الطلقات العشوائية إشارة إلى فاعلها وتأكيدًا إلى أن الجماعة حاولت رفع درجة الفوضى استعدادًا للانقضاض على السلطة وطمعًا في الحكم، لقد كانت أيامًا صعبة اختلطت فيها دماء الشهداء الأبرياء مع جرائم العناصر المدسوسة وتنفيذ المخططات الأجنبية ومحاولة سرقة نضال الشعب المصري لصالح قوى خارجية وفئات داخلية دون اعتبار لمصالح البلاد ومستقبل شعبها، وقد توالت الأحداث كما هو معروف وجرت وقائع متعددة أذكرها دون ترتيب لها وقد جرت عند وزارة الداخلية، أو في شارع محمد محمود، أو أمام التليفزيون المصري (حادث ماسبيرو) وحتى أمام وزارة الدفاع بمكانتها الوطنية الكبرى وقيمتها لدى الشعب المصري وهي التي لم تهتز أبدًا، وكان واضحًا للجميع أن هناك أصابع تعبث بالشئون الداخلية للبلاد وأن هناك أيدٍ خفية من الداخل تدعمها وتساعد على تفاقم الوضع واختلاط الأوراق وانعدام الرؤية الصحيحة، ولابد أن أدلي هنا بشهادة حق للتاريخ أنه لولا الجيش المصري ودوره في تلك الأحداث لاهتزت الدولة المصرية وكادت تكون معرضة للسقوط رغم أننا نراها عصية عليه عبر تاريخها الطويل، ويهمني هنا أن أسجل عددًا من الملاحظات حول أحداث تلك الفترة والأيام العصيبة التي شهدتها البلاد وأسوق ذلك في النقاط التالية:
أولًا: إن الثورة الشعبية ولدت يتيمة بغير قيادة شرعية فسمح ذلك لكل من يريد أن ينسبها إليه أن يفعل دون تردد، فالخريطة السياسية والحزبية كانت تائهة وسط الأجواء المختلفة على نحو أسهم في نشر الشائعات وترويج الأكاذيب فاختلط الحابل بالنابل كما يقولون، ذلك أنها جاءت نتيجة حشود إلكترونية بالاستدعاء الرقمي فلم تعرف لها قيادة ولم يكن لها أب شرعي إلا الوطن بقيمته الكبرى وهويته العامة واضعين في الاعتبار أن الاستدعاء الإلكتروني يصنع حشدًا كبيرًا ولكنه لا يخلق قيادة واضحة.
ثانيًا: لم يكن لأحداث 25 يناير وما بعدها برنامج سياسي واضح لذلك سمح بخديعة أحلام الجماهير ودغدغة مشاعرها والقفز على قمة السلطة خصوصًا وأن جماعة الإخوان المسلمين كانت هي الأكثر تنظيمًا واستعدادًا بين قوى الشارع السياسي في مصر فاستغلت الفرصة وراوغت بإظهار الزهد في الحكم ثم انقضت عليه باثنين من المرشحين للرئاسة، أحدهما أصلي والآخر احتياطي رغم أن الأمر لم يكن مطروحًا في الأجندة العلنية لهم بل وعبروا في البداية عن أنهم لا يتطلعون إلى منصب الرئيس خصوصًا وأن خبرتهم في الحكم محدودة بل معدومة.
ثالثًا: ليتذكر الجميع أن الأيام الأولى لحشود الثورة اتسمت بقدر كبير من الوطنية الجياشة والتصرفات المحسوبة حتى تحدث زعماء العالم في كل مكان عن عظمة الشعب المصري وروعة ثورته، ولكن الأمور تغيرت بعد أن جرى الانقضاض على الأحداث وتحويل المسار لخدمة عناصر دخيلة وجماعة غير شرعية خرج قادتها من السجون التي تآمروا على فتحها مع عناصر قدمت من الشرق عبر سيناء ليكتمل سيناريو الخديعة وسرقة جهاد الشعب المصري من أجل مستقبل أجياله القادمة.
إن دروس 25 يناير 2011 لم تكتمل سطورها بعد ولم يدرك الجميع أنها كانت فصلًا كبيرًا في كتاب النضال المصري عبر العصور،إنها تحتاج إلى مزيد من الدراسة وتحليل المعلومات حتى نضعها في مكانها الصحيح الذي يليق بمشاعر الجماهير التي خرجت لها وشاركت فيها.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 19 يناير 2021.