كان الأستاذ الرَّاحل محمد حسنين هيكل هو أول مَنْ استخدم هذا التَّعبير للتبشير بعصر مختلف وعالم جديد تختفى فيه الزَّعامات الكبرى والشَّخصيات الاستثنائية، وتبتعد عن المسرح السِّياسى الدولى الأسماء الكبيرة مثل «ماوتسى تونج» و«جواهر لال نهرو» و«عبدالناصر» و«شارل ديجول» و«جوزيف بروز تيتو» بعد أسماء أخرى ملأت الدنيا وشغلت النَّاس من أمثال «المهاتما غاندى» و«نيلسون مانديلا» وأيضًا «ونستون تشرشل»، فقد شبَّت الشُّعوب عن الطَّوْق، وأصبحت تخشى الكاريزما الكاسحة، وتُقدِّر الحكام الواقعيين الذين يمثلون شعوبهم بالوصول الدِّيمقراطى من خلال الانتخابات العامة؛ إذ إن كاريزماالحاكم تعمى الأبصار وتجعله فوق الحساب، كما أنها تضع الشُّعوب أمام مفترق الطُّرق بعد رحيل النَّجم السَّاطع الذى عشقته الجماهير وابتلعت منه وغفرت له كلَّ أخطائه لأنه نجمها المُفضل وزعيمها الخالد، ولاشك أن ذلك التَّطور قد غيَّر من شكل الحكم ووضعنا أمام عصر مختلف تمامًا تقلق فيه الدول من الزُّعماء أصحاب الشَّعبية الكاسحة والتَّأثير الذى لا يُبارى، ويبدو كأنه مُخدِّر عصرى تستكين أمامه قوى المعارضة وتُسلِّم له التَّيارات السِّياسية المختلفة، ولاشك أن التَّفرُّد بالحكم يؤدى بالضرورة إلى الوقوع فى أخطاء غير محسوبة، كما يؤدى الأمر إلى العَصْف بالديمقراطية والاعتداء على مقومات المجتمع الأساسية، وفى تاريخنا الوطنى نماذج كبيرة لشخصيات ضخمة؛ ففى عصرنا الحديث عرفنا «محمد على» مُؤسِّس الدولة المصرية الحديثة و«الخديو إسماعيل» صاحب نظرية تحويل مصر إلى دولة شبه أوروبية، كما عرفنا «جمال عبدالناصر» بزعامته الهائلة التى أحدثت تحوُّلاً كبيرًا فى العقل المصرى على نحو مازالت آثاره باقية بيننا، وعندما جاء «السادات» أصبحنا أمام رجل دولة من طراز مختلف يؤمن بالواقعية السِّياسية، ويلعب على المتغيرات الدولية والإقليمية على نحو غير مسبوق، وتظل الجماهير وفيَّةً لنجمها المُفضل وزعيمها المُفدَّى حتى بعد رحيله بما يقرب من نصف قرن، فالجماهير عاطفية التَّوجُّه تتعلق بمَنْ انحاز للطَّبقات الدنيا واهتمَّ بقضية العدالة الاجتماعية، ولقد عشتُ فى الهند سنوات، ورأيت تقديس الهنود لـ«المهاتما غاندى» واحترامهم لـ«جواهر لال نهرو»، وقد كان الأول صاحب فلسفة فريدة، أما الثَّانى فقد كان صاحب سياسة حكيمة، وهما يشكلان معًا ثنائيًّا تاريخيًّا فى سماء الهند الحديثة، ويهمنا هنا أن أسجل الملاحظتين التاليتين:
أولاً: لكلِّ دولة ظروفها، ولكلِّ شعب شخصيته، ولا يمكن الجزم بالحاكم الأفضل لبلد مُعين إلا من خلال التَّجربة التى يعى فيها ذلك الحاكم جيدًا لحظة الانصراف، والكلُّ يتذكر العملاق الفرنسى -شكلاً وموضوعًا- الجنرال «شارل ديجول» الذى اشترط نسبةً معينةً فى استفتاء عام 1968، وعندما لم ترق له النَّتيجة آثر الانسحاب على الرغم من أنه كان يستطيع بمنطق الشَّرعية أن يستمر فى الحكم، ولكنه «ديجول» قائد المقاومة ضد النَّازى وبطل فرنسا الحديثة.
ثانيًا: إن الدِّيمقراطية بمفهومها الغربى مازالت قاصرةً عن تحقيق العدالة السِّياسية فى المجتمعات المتخلفة، إذ ينتشر الجهل ويحتدم الصِّراع الطَّبقى، وتبدو الدِّيمقراطية فى هذه الحالة وكأنها تَرَفٌ لا تحتاجه الشُّعوب المغلوبة على أمرها المقهورة إرادتها، لذلك برزت تعبيرات جديدة تتحدث عن الدِّيمقراطية بمنطق مختلف يقوم على التَّوافق فى الرَّأى ولا يقوم بالضَّرورة على أغلبية الأصوات، خصوصًا أن النِّظام الانتخابى ليس قادرًا فى كلِّ الأوقات على إفراز التَّمثيل الحقيقى للقوى السِّياسية فى المجتمع، ومن هنا أصبحت عودة بعض الدول إلى نجومها اللامعة أمرًا محتملاً خصوصًا بعد أن جرَّبت تلك الدول الاستسلام المُطلق لشعارات الدِّيمقراطية الحديثة، فكان الذى حدث هو أن غاب الأمن وعَمَّت الفوضى ولم تتحقق لا الدِّيمقراطية ولا التَّنمية.. إن نظرية الحكم مُعقدة للغاية، وتحتاج إلى نوع من المواءمة وفقًا لظروف كلِّ دولة واحتياجاتها، لذلك كان طبيعيًّا أن نقول إن اختفاء عصر النُّجوم اللامعة لم يتحقق تمامًا، وإن البدائل لم تنجح هى الأخرى على النحو المطلوب، بل مازلنا أمام إشكالية لا تنتهى تقوم على الموازنة بين إرادة الشَّعب فى جانب، ومصلحته أحيانًا فى جانب آخر.
إن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» الذى كتب عن انتهاء عصر النُّجوم اللامعة هو ذاته الذى كان جزءًا من ذلك العصر بشراكة الحكم مع الرئيس «عبدالناصر»، ولكن الدنيا تتغير، والعالم يجرى ونحن نلهث وراءه!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد
تاريخ النشر: 11 اكتوبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b1%d8%ad%d9%8a%d9%84-%d8%b9%d8%b5%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%ac%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%a7%d9%85%d8%b9%d8%a9/