تسلَّمتُ عملى سفيرًا لـ«مصر» فى «فيينا» فى شهر سبتمبر عام 1995، ووجدتُ أن للسفير سائقين يتناوبان العمل معه، هُما السيد «سيف الحق»، والسيد «محمد أرشاد»، وهُما باكستانيان أصلاً، ولكنَّهما نمساويان بالتجنُّس، حيث قضى كلٌّ منهما ما لا يقل عن خمسة عشر عامًا فى العاصمة النمساوية، وكان السائق «محمد أرشاد» يُعدُّ السائق الرسمى للسفير.
وفى صباح 14 نوفمبر 1995 -وكان يومًا باردًا كما هو الحال فى فيينا فى ذلك الوقت من السنة- اتَّجه بى السائق «أرشاد» إلى مبنى «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» فى قلب العاصمة النمساوية، ومن عادتى أن أتبادل أحيانًا الأحاديث العامَّة مع السائق، فقلت له: إننى كان يجب أن أعتبر هذا اليوم إجازةً لى، فقال لى: لماذا يا سعادة السفير؟ فقلتُ له: لأنه يوم عيد ميلادى، فنظر إلىَّ مُندهشًا، وقال: بل هو عيد ميلادى أنا يا سعادة السفير، فقلتُ له: كيف ذلك؟ فأخرج بطاقة هويَّته من جيبه وقدَّمها لى، فرأيتُ أنه من مواليد اليوم ذاته مع اختلاف السنين؛ فهو من مواليد 14 نوفمبر عام 1959، وأنا أكبر منه بخمسة عشر عامًا بالتَّمام والكمال؛ فتبادلنا التهنئة بهذه المناسبة المُشتركة، وبدت لى تلك مُصادفةً لا تتحقَّق إلا فى خيال بعض الرِّوائيين.
إنها مُصادفة مازلتُ أحتار فى تفسيرها، وكثير من المُصادفات فى حياتنا تأتى بلا ترتيب أو إعداد، ولقد بدأتُ أشرح للسائق «محمد أرشاد» من هُمُ الذين وُلدوا معنا فى اليوم نفسه مع اختلاف السنوات
وقد ظلَّت العلاقة بينى وبين «محمد أرشاد» مُتواصلةً حتى الآن، بعد أن ترك السفارة هو الآخر بسنوات طويلة، وأصبح رجلَ أعمالٍ، ونحرص معًا فى الرابع عشر من نوفمبر من كلِّ عام على تبادل التهنئة بعيد ميلادنا المشترك رغم اختلاف السنين.
إنها مُصادفة مازلتُ أحتار فى تفسيرها، وكثير من المُصادفات فى حياتنا تأتى بلا ترتيب أو إعداد، ولقد بدأتُ أشرح للسائق «محمد أرشاد» من هُمُ الذين وُلدوا معنا فى اليوم نفسه مع اختلاف السنوات، فقلتُ له: أنت باكستانى، ولكنَّ رئيس وزراء جارتكم الكبرى «الهند» (جواهر لال نهرو) مولود فى اليوم نفسه، وأيضًا عميد الأدب العربى «د. طه حسين»، وكذلك «د. بطرس بطرس غالى» أمين عام الأمم المتحدة الأسبق، و«الملك حسين بن طلال» ملك «الأردن» السابق، والأمير «تشارلز» ولى عهد «بريطانيا»، بالإضافة إلى أسماء أخرى، منهم الفنانة المصرية الأرمنية «لبلبة»، والفنانة الرَّاحلة «معالى زايد»، وعدد كبير من المعارف من مواليد «برج العقرب» المعروف بشدَّة بأسه، وطيبة قلبه فى الوقت ذاته، وحرصه على من يُحبُّ، وحمايته لمن يلوذ به.
وكان «أرشاد» يستمع فى سعادة، ويحسب نفسه مع المشاهير، ومع أنَّنى لا أؤمن كثيرًا بعلم الأبراج، ولا أهتمُّ بقراءة الطالع، إلا أننى أرى تزايدًا فى الاهتمام بذلك الأمر، حتى إن المَرْءَ يسأل عن البُرج الذى وُلد فيه عند بداية التَّعارف بشخص آخر، وكأنما يُريد أن يُحدِّد أسلوب التعامل معه وكيفية توطيد العلاقة به، ولكنَّنى اكتشفتُ أن كثيرًا من مواليد البُرج الواحد مختلفون تمامًا فى المزاج، والشخصية، والتفكير، والخُلق، بل حتى مواليد اليوم الواحد يختلفون.
ولقد أحالنى البعض إلى الأبراج الصينية لعلَّها أكثر دقَّةً؛ لأنها محكومة بالسنوات، وَتَتَابُعها، فاكتشفتُ أنَّنى من مواليد «بُرج القرد»، وكان هذا مصدر دُعابةٍ دائمةٍ مع الأصدقاء، ولكنَّنى مازلتُ مُصرًّا على أن هذه الأمور نسبية، وليست قاطعةً، وهي أقرب إلى «الفلكلور» الاجتماعى منها إلى الحقيقة العلمية.
وسوف يظلُّ يوم الميلاد بالنسبة لكل إنسان تاريخًا خاصًّا، ورقمًا لا يتكرَّر فى حياته، قد يحتفل به كل عام، ولكنه يشعر مع ذلك الاحتفال بمرور السنين، وجرى الأيام، ولقد صدق الشاعر الراحل الكبير «كامل الشناوى» عندما عبَّر عن ذلك بقوله:
يا يوم مولدى .. يا يومًا بلا غدٍ
ولعلَّ الشىءَ الرَّائع فى هذه الدنيا، والذى يدلُّ على عظمة الخالق، هو أن مواليد اليوم الواحد يُولدون، ولا فرق بينهم بسبب اللون، أو الجنس، أو العِرق؛ فالجميع مُتساوون، سواء من وُلد «وفى فمه ملعقةٌ من ذهب»، ومن وُلد وأهله لا يملكون ثمن كِسائه أو غِذائه، كما أن الجميع يُولدون أحرارًا، ولم نسمع عن طفل وُلد مُكبَّل اليدين؛ فلقد خلقنا الله بلا قيود، لذلك أشعر دائمًا بالمُساواة مع الجميع، وأتذكَّر هنا أن قاتل الرئيس الراحل «السادات» هو من مواليد اليوم ذاته الذى وُلدتُ فيه رغم أنَّنى من الذين يُؤمنون بأن «السادات» هو ثانى رجل دولة فى تاريخ «مصر» بعد «محمد على»، خصوصًا فى فهمهما المشترك للمُتغيِّرات الدولية والسياسات الإقليمية.
وجدير بالذكر أن «السادات» من مواليد يوم «الكريسماس» الغربى، بينما «عبد الناصر»، الذى كان بطلاً قوميًّا تعشقه الجماهير حتى الآن، من مواليد منتصف يناير، وسوف يُكمل الاثنان فى العام المقبل المئوية الأولى لميلادهما، ونزمع فى «مكتبة الإسكندرية» الاحتفال بهذين الزعيمين الكبيرين.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام
تاريخ النشر: 7 ديسمبر 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a3%d9%86%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%91%d9%8e%d8%a7%d8%a6%d9%82-%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d9%85%d9%8a%d9%84%d8%a7%d8%af/